قصص قصيرة

أعَطنَي حَريتَي..((ولكَن))..لاَتطلق يَديّه!

مراسيم حافية القدمين

on السبت، 25 يوليو 2009




خفق قلبها فجأة .. عندما ردد لها قائلا : " سوف أتي اليوم لرؤيتك حبيبتي .. "
لم تستطع كتمان فرحة طالت لمعة سعادتها في أفق عيناها من وقعة الحب حتى أعمق أعماق ذروة فؤادها .. أخيرا ستلتقي به بعد ثلاث ساعات. .... فلطالما تحدثا سويا على النت لساعات ، وبالهاتف لدقائق أطول ... ..
كانت تراه من خلال كلماته وردوده وانفعالاته... كان كما تتمنى هي رفيق درب روح وشريك فرح وحب ، ... كان لجرأته أكبر دافعا لفسخ الخجل من عينيها .... بعد أن تعرفت عليها جيدا ؛ أشهرت حبها وسط استعداد لمراسيم حافية القدمين الخجلى .... تلك الليلة عايشته بكل تفاصيل حديثه.. ووصفه لنفسه .. وعن طبعه الحاني ... وعن حبه الكبير لها ... يومها لم تستطع النوم طول الليل ... شعرت بأنها لوهلة ملكت الدنيا في أسطورة الحب الخالد ... خلدت كل تفاصيل حبها في صور وسط ذاكرة قديمة قارب لونه على الصفار ... ومع حبها كانت تتولد تلك الرغبات العميقة ... بالأمل والحب ... والشغف لدرجة الجنون ... يومها لم تستطع كتمان حبها الفاضح بالجنون ... أدركت صديقتها المقربة حصة الوهم الذي تعايشته ... كانت دائما ما تنبهها بقولها الحازم الممزوج بالخوف والاهتمام :
جـميلة .... أننا في واقع لا ينظر لمثل تلك اللقاءات ببراءة وأنتي تعرفي أن أعز ما تمتلكه البنت شرفها ، لا تقولي لي أن قصده نبيل، ولكن ألسنة الناس لا ترحم!!

جادلتها قائلة بخوف من الماضي التعيس الذي تعايشته لحب ضائع ... وألم كبير .... من شخص تركها لأجل ابنة عمها ... والتي كانت أجمل منها بدرجة تفوق الوصف رددت بشيء من اليأس والأمل البأس :
كل ما أريده أن ألتقي به على مشهد من الناس وفي مكان عام أفي ذلك حرام ؟!
لقد وعدني بالتحدث نعم ... سوف يقولها اليوم لي بكل صدق وعيناه في عيناي ... سوف يطلبني للزواج بعد حب كبير .. بعد حب وجدته بصمت ... وأنا في قاع القهر ...
اقتربت منها بحنان ورببت على كتفها بشيء من الأخوة ... وهي تقول :
غاليتي الحب هو مباح ... وشيء رائع أن كان يتوج نهايته بزواج وعائلة وأطفال ....
ولكن ما بدأت به نهايته سوف تكون اشد من حبك القديم ... أخشى أن يزيد حرجك الجديد بالقديم ... سوف يكون من الصعب .. تجاوزه بسهولة ..
أجابتها بشيء من الرفض والتكتم :
الحب بين اثنين من عباد الله ليس حرام؟!!
هل الحديث من أجل بناء أسرة وأطفال في المجتمع يشترط أن يتوج بالحب !!؟
أنظري حولي .. هل كل أسرة سعيدة .. أنظري إلى نفسك ... لما أمك منفصلة عن أباك ...
هل الحب كان له وجود ...!! أين الحب الذي تستدعينه ...
وأنت تعايشين ضحية أسرة لم تقدر الحب يوماً ..
انحدرت من عيناها دموعها الحارة ... ولاذت بالصمت .. أطبق الصمت على المكان لبعض دقائق ...
عادت بهدوء إليها قائلة بشيء من الأسى :
أنا آسفة جداً ... لم أقصد أن أحرجك ... اعذريني ..أرجوك ..
لم ترد عليها وأخذت تنسحب بهدوء مؤلم ... تركت في نفسها شيء من الأسى والقهر ... حينها أوقض في نفسها شيء من بصيص الفرح .. عند رنين جرس الباب ...
بدلال تترسم خطواتها ...الملتاعة ...فتحت الباب لتراه عامل توصيل طلبات المطعم الايطالي ...عادت لحجرتها ... تتفقد زينتها وتكمل ما تبقى منها ... مضى الليل ... وبعد يوم أخر ... مضى أسبوع ولم يأت على موعده ... انتظرته على أمل .. حتى تضاءل شيئا شيئاً ..
تركت في نفسها أن هناك ما يمنع حضوره لها ... خصوصاً وأن هذا أول موعد لهما ... لم يسبق أن التقى بها مسبقاً ...كذلك أن انقطاعه عنها أكد لها أن مكروه قد حصل له ... ليالٍ عديدة مضت وهي على أمل لظهوره ..في صفحة حياتها ... مجدداً ... أصبح حبها له يصيغ واقعا بدا يكبر في خيالها شيئا فشيئاً .... وتداعت إليها كل المشاعر التي تترعرع في بستان الحب ... كأنها ضمة ريحان، أو سيقان نعنع في حديقة مترعة بالطين اليابس ، فلم تعد ترى في أفق الزمان إلا تلك الساعات التي ستكون أجمل ما في العمر و أحلى ما في الحياة.. ...كان مجرد الحديث إليه كافيا أن يزيح عن روحها هموم سنين، وأن يفجر فيه ينابيع الفرح والاشتعال ... شعلة الحب الحارق بكل ما يلفه من شغف وجنون ... كان أملها البسيط الحلو أن توقظه ذات صباح وفنجان قهوته يفوح رائحة شهية ....حلم بسيط ورقيق كرقة حلمها الوردي ... كم رسمه رسمتها في أحلام أيامها الهائمة ... بجدران تملأ ألوانه دفء الحب الحاني ... كم كان لساعات اللقاء تخيلات !!؟..
كانت تتمنى في نفسها كل العطف والحب أن تقدمه كل مساء ... ولروحها تفديه كل صباح مشرق ... دائما ما تردد في ذاتها بشغف :
" كل يوم سيراني بكامل زينتي .. كعروسة تزف كل مساء .. هكذا ينبغي أن تراني ..لا ..سألبس فستاني الأحمر القاني... وكلما تحاول تنسيق ثيابك ... وشعرك أمام المرآة!! سأكون أمامك بخفة تتسلل يداي إليك بخفة لأترك لمساتي الرقيقة بك ... "

مطت شفتاها في حياء وهي تتخيل الموقف ثم تسحب وسادتها الصغيرة لتضم إلى صدرها وهي تهمس برق :
سأكون معك في الصغر والكبر ... سأكون ظلك الناعم ... ونبض أنفاسك التائهة ... على شاطئ البحر..سنسير معاً ... وبصحبة أولادنا الصغار .. سنشاهد كل تفاصيلهم الصغيرة .. بأحضاننا ... ونتوج لهم يوم تخرجهم سوياً بقالب حب كبير ... وغداً في عجزنا وغدر الكبر بنا ... سأقبل يداك .. كما في أول يوم بعد زواجنا ... ماذا سأقول لك في زمن أصبح كل شيء فيه جميلاً بوجود الحب ؟"

تمددت على سريرها القرميدي اللون ... بغطاءه الأبيض المثير ... وهي تتحسس بكلتا يداها في شغف ودفء ... وهي تردف بصمت أوشك على الانفجار :
هنا ... سأشاركك لعبة الحب .. والألم ... وهنا سنحيى حب طوى سنينه الحزن .. ولوعة الفراق ..بعيناك التي سوف تسترق نظر اللذة في ملامح وجهي ... سأختبئ منك داخل أنفاسك في خجل وتتوارى عيناي بشيء من الفرح والحب الذي يقودني كلماتك الحانية إلي ...ولكن لك طرق لتعذيبي .... قد أسكت فالسكوت هنا أكثر دلالة.. ... تمسك بيدي تحس بحرارة اشتياقي لك ... فأسحبهما في شيء من الحب لأبتعد عنك بعيد والخجل يلفني حتى أخمص قدماي .....ولكنك لم تنسى أن تحضر لي وردة حمراء كما في لقائنا الأول ... "
يصل لها رسالة من مجهول ... لتتلفظ أنفاسها وهي تقرأ سطوره بألم وصدمة تشق كيانها المتصدع بالحب .. " أسف ... لأخباري أن ناصر قد مات يوم أمس بعد ما عاني من ضرب بالرصاص واعتقاله مع متظاهرين وسط السفارة بالأسبوع الماضي .. ارجوا حضوركم غدا لمراسيم دفنه ... "

فجأة انحدر دموعها بحرقة على خديها الناعمتين ... لتكتشف أن أصعب شيء في الحياة أن يكون الحب صادقا ً وأن أصعب شيء أن يصدق مجتمعنا أن يكون للحب مكان أو فسحة من الوقت .... فالزمان زمان الحرب والقتال بالمجازر بعد أن ارتوى بآهات وصرخات أمتها .. في كل مكان وبقعة أرض .. هناك حب يتزاحم داخل ضجيج الموت ... في كل بيت وعائلة يكمن الحب داخل أنفسهم وسط ضيق العيش وقلة الحال ... وباليوم التالي كانت هناك بزيها الأسود المفحم بالقسوة ... كانت ترتدي في معصمها أسورة من ذهب أبيض كان قد أرسالها لها في يوم احتفال تخرجها ...عن طريق أحدى شركات البريد السريع .... وقد وعدها يومها حينما يراها سوف يكمل حبه بأن يضع نصفه في يداها الأخرى ... لم يأتي كما وعدها ..ولم يكمل لها كما اخبرها ... أخذت تنظر إليه بألم وقهر ... تسير حافية القدمين إليه ... إلى قبره ... إلى روحه المدفونة في باطنه ...تبكي بحرقة ... وهي تتحسس موضعه ... تضع وردة بيضاء ... فالحياة لا لون لها من بعده ... انحنت إليه وهي تهمس له ... :
سأنتظرك .. يا ناصر ... سأنتظرك مهما حييت .. !!
رددت في أنفاسها المكسورة : " الحب حبك .. ولكن يكون من بعدك حب .. "
أدركت مع طول العمر القاسي أن أصعب شيء لرجل يعيش هذا الواقع .... واقع أن يتعرف على امرأة تكافئه إدراكا وتملأ عليه حياته فرحا وحيوية .... فالحقد والغصب سيمحى حتما لحظة ضعفه ... المرأة... حتما سيتركها مع دوامة الحياة القاسية ... شعرت بالغضب حينها عندما وجدت أن الحب كاملاً ... كاملة كما تشتهي روحه ... كم كان حبه عميقا في قلبه ... مضت أيام لا لون لها والدموع لم تفارقها كل ما تذكرت أحلامها الوليدة تتلاشي أمامها ...كم كان رائعاً .. أن يولد الحب في تلك اللحظات وهو قد ودع بعضا من أيامه القادمة في زمن الحرب الأخيرة ...

" .......... تمت .........."

غيرة أثنى

on الجمعة، 17 يوليو 2009



ارتميت على فراشي .... لأبلل وسادتي بدموعي الغريزة ... بعد أن غسلت وجهي أثر تلقي الصدمة العنيفة بي ...
لم اعد أحتمل البقاء أكثر بعد أن رأت كلا عيناي الحقيقة أمامي ... " أنه زوجي ... الخائن ... وعشيق المرأة الحقيرة ... ياألهي .."
أخذت أردد هذا بلا وعي .. وأنا أسدد ضرباتي العنيفة على وسادتي ... وكأنني أنازعه هو حتى تمزقت وتناثرت ريشتها البيضاء حولي ... بمرارة بكيت ... تألمت ... الوضع لم يعد يحتمل ... التعين منه .... لقد رأيته وهو يخرج من شقتها .. شقة " أم سميرة " المرأة الأعجمية ... منذ زمن وهي تعيش هنُا بيننا ... في العمارة الواحدة ... لا فرق بيننا سوى بطوابق فأنا اسكن في الدور الثاني ... أما هي ... ففي الطابق الأرضي ... لا نعرف عنها سوى امرأة وحيدة ... لديها أبنتها الصغرى " سميرة " ...
الفتاة البريئة المليئة بالشقاوة ...والحيوية ... والحنان منذ صغرها .... ولا تبالي بما يهتف صغار الحي من أنها أبنه الحرام ... ... بل أنها لا تدرك معناه ... دائماً ... ما أجدها تلهو في مدخل العمارة وبيدها لعبتها الدمية ... تلهو بها كيفما يحلو لها ..... تمضي الوقت واليوم بأكمله في الشارع رغم أن عمرها لم يتجاوز الأربع سنين ... أما أمها التي تبقى داخل شقتها لا نكاد نراها إلا إلماماً ... كانت تعمل في مكينة الخياطة ... تخيط ملابس النساء وما ترقع من الثياب بمبلغ زهيد .. دائماً ما كنا نلاحظ تردد النساء إلى منزلها .... بشكل دائم ...
حياة بسيطة ربما أقرب إلى التقشف والزهد صحيحاً إنها لا تزاور نساء الجيران ... إلا ما ندر ولكن جمالها غالباً ما تسلب رجال العمارة بأسرها ... جمال هادئ بتقاسيمه يميل إلى النقاء ... تبدو بهيئة مزرية في أغلب الأحيان ولكن جمالها وبياضها تُأكد إليّ أنها ورثت من احد أجدادها الأتراك ... وربما هي كذلك أنف دقيق يشف عن مدى التجلد والتحمل التي عانته ... وعيناها خضراوان تحيط بها أهدابها السوداء التي تعلوهما حاجبهما الدقيق وكأنهما قد رسمتا بشكل دقيق ... منسق في أطار بديع التي تقابل شفتيها الورديتان باستدارتهما البيضاوية ... ملامح جامدة ...بلا معالم ... بشعرها الحريري والذي ينسدل أسفل كتفيها .. وإن خرجت لتقضي حاجتها تحمل أبنتها " سميرة " بعد أن تلف على جسدها عباءة سوداء تجمع طرفه في قبضة يدها اليمنى .... توحي لما يراها أن الأرض مبتلة بالطين وتخشى إلا تتعثر في الطريق المنعرج ... هكذا تذهب حينما يكون الشارع فارغاً من البشر المارة ... ولا تعود إلا بخلو المكان من البشر بعد أن يحل به ظلام دامس ... عرفت ذلك الحين أنها تذهب في الصباح ولا تعود إلا عند حلول المساء ... فكثرت الأقاويل بها ... ليُشاع بأنها امرأة لا قرار لها .... حتى الصق بها لقب " الساقطة " ...
فمنذ أن سكنت أنا وزوجي حتى الآن لا نعلم عنها أي شيء أخر سوى ذلك ... لذلك بكيت ... فمنذ مدة وأنا أتشكك بتصرفات زوجي الغير مبرر ...لاحظت التغير البادي عليه ... بدأ من أوقات عمله التي زيدت ونقصان مرتبه الشهري عنا بقيت في حيرة من أمري ... حتى أوجست في نفسي بأن هناك شيئاً يخفيه عني ...حملت على عاتقي مراقبة وقت انصرافه وميعاد قدومه ... وفي بعض الأحيان أحاول الاتصال به .... في مقر عمله ... فلا يجيب بعد قدومه ... أو ذهابه مبكراً ... دارت الأسئلة في مخيلتي طويلاً ... حتى تيقنت بأن هناك امرأة في حياته ...بدأت تسلب حياته مني ....شيئا فشيئاَ ... بدأت الأفواه تعلو بما تم ملاحظته ...حركة غريبة في شقتها ... فرائحة الطبخ المميز يسلب النفس عند مدخل العمارة ... طعام شهي ...بدأت أبنتها بهيئة مرتبة ... بعد أن كانت بشكلها الأشعث ... بثوبها القطني القصير الذي يكشف عن ساقيها المغبرتان بالأوساخ ... أصبحت أكثر نظافة ورقة بفستانها السماوي المزين بخيوط ذهبية لامعة المنسقة بشرائط بيضاء حول خصرها ... تبدو فتاة مهذبة ومن الطبقة الراقية ... أصبحت مغايرة عما كانا نعلم عنها بالسابق ... أصبحت نظيفة ترتدي قبعة بيضاء لينسدل شعرها الأشقر الحريري حول جبينها .... ليوازي حاجبها الدقيق ..
كانت تنتعل حذائها الأسود بجواربها البيضاء الناعمة ... أما أمها فلا نكاد نراها بتاتاً ... أيكون هناك رجلاً في حياتها وإلا من أين لها هذا المال ... وهذا النعيم الذي ترفل به ...هي وابنتها " سميرة " ... وبالفعل بدأنا بمراقبة منزلها ... ومن يكون وليّ أمرهما ... لكننا احترنا في مفترق الطريق .... فلم نعد نسمع مكينة الخياطة العتيقة تدور في منزلها ... ولا زوار في منزلها كما في السابق ...
أصبحت أكثر اهتماما ً وأحسن حال .... حتى صعقت ذات يوم بما اخبرني ابن الجيران ... أن حينما سأل " سميرة " بمن جلب لها هذه الثياب لتجيب له وببراءة " فيثل " .... تقصد به فيصل وهو اسم زوجي ... " حيث أنها دائما ما تنطق حرف الثاء بدل من أحرف كثيرة ....
لا أكاد أن أصدق ... ما العمل ...؟؟؟ ولكنني أرجعت حبها بزوجي لأنه يشفق عليها ويعطف على ابنتها " سميرة " ... فكان غالباً ما يحن عليهما .... ويهدي لابنتها بعض الحلوى التي يجلبها مع في الطريق .. وكلن الآن قد صدق ابن الجيران لما قال ... لم يكن ليجلب لها وإنما ليتودد ويتقرب من أمها ...التي لا يعرف عن عائلتها أو عن أبا الطفلة من شيء ... فربما ذلك ساعده لتتقرب منها بعد أن سنحت له الفرصة وبالمصادفة أن يراها ... حينها توقفت عن البكاء وعن التفكير أيضا ... عندما سمعت وقع أقدام قادمة نحوي ... أطلت نحو عدسة الباب فوجدته يصعد إلى شقتي ... كدت إن اجن ...أيخدعني أنا .. ومع من ... مع تلك الساقطة ... لا ....لا يمكن ....
حينها سمعته يدير مفتاح قرص الباب ... كدت إن أجن وافقد صوابي ....فكيف أواجهه بالأمر ... وهل الوقت مناسباً لمناقشته ... هل افتعال الشجار بعد منتصف الليل ... خشية إن يعلم جيران العمارة بأمرنا ... أم اصمت وابقي الأمر حتى يوم غداَ ليتسنى لي التأكد منها أولا ... سأذهب إليها غداً ...سأحادث أم " سميرة " عن الوضع المريب التي حدث لنا .... أتراها تتقبل الأمر ... أم سترفض الاعتراف فيه .... حتماً سترفض لأنها تعلم أنني زوجته .. ذاك الذي يسمى حبيبها وعشيقها ...إلا لو كان زوجها ... ؟؟
وقعت الكلمة شديدة على قلبي ... وبمجرد أن أردد الكلمة أشعر بانفجار يحطم نفسي وصداع هائل يزلزل عقلي ...أنه أمر فضيع الشعور به ....
تخيلت الأمور ابعد مما هي عليه .. في أرض الواقع ... دلف زوجي إليّ ...قبلني في جبيني ... شعرت بالتقزز وأنا امسحها بينما أطلقت سؤالي المجروح ... وبي شيء من الغضب الهادر ...حاولت إخفاءه بقوة وسط أنفاسي ...
أتريد أن أقدم لك طعام العشاء ....؟؟
أجابني حينها ببرودة لا تطاق منه :
كلا ...لا أريد ...
وسار نحو الحجرة ليسقط جثته على الفراش ... ياألهي ... لقد تناول طعام العشاء معها ..وتركني غير مبالي بي ...... تباَ له ... لقد تناول طعامه هذه الليلة معها ... ربما امضيا وقتاً ممتعاً ... منعه من أن يستقبلني بود كما كان يفعل كل مرة ... ربما وجد بها شيئا أثاره ولم يجده بي... ما العمل ... ياألهي ما الحل إذن ... أطرقت ساعة من الزمن وأنا أدور حول فراغ مستميت بلا فائدة ترجى ... قفزت حينها فكرة جهنمية إلى مخيلتي .... سأبحث في جيبه عن مفتاح .. أو رقم .. أو رقة ربما تثبت لي صحة ما رأيت أو على الأقل تفسر الوضع الذي أنا عليه ...أخذت حينها أبحث بينما كان هو مستغرقا في نومه ... لم اعثر على شيء ذي أهمية تعنى .. ترى ماذا علي أن أفعل .....؟؟
جن جنوني ...لما استطع في تلك الليلة النوم بسلام ... وبجواري مكمن الأسرار والألغاز يغط بنوم عميق ... لم استطع أن استشف شيء مما وجدت يثبت لي صحة شكوكي ... لم أجد ما يثبت انه على علاقة بها .... يئست ... مضى يومان وأنا على هذا الحال ... في نار الغيرة أتلظى .... وفي حكم الشك أتقصى ...
وفي اليوم الثالث ... شاءت الأقدار أن تبين لي الواقع الذي خفي عن عيني وطمس وجه الخير من بين يدي زوجي الغالي ...كنت على موعد إلى الطبيبة لإجراء الفحوصات المبدئية حول تقرير ثبوت الحمل أم لا ... وبالفعل ذهبت أنا وزوجي إلى الطبيبة هناك ... وتم إجراء الفحوصات سريعاً ... ولكن زوجي قد نسي أن يجلب ورقة الموعد السابق للتحاليل لتتطلع عليه الطبيبة حول ما كتب بها .... و يا لمصادفة أحضر زوجي أوراقي مع ورقة باهته اللون تميل إلى الصفار والتمزق .. لقد كانت ضمن هذه الأوراق مصفوفة ..حينها قدمها إلى الطبيبة ...أعادت له الورقة هذه وكنت أتفحصها بعيني حتى سحبتها منهما وفتحتها سريعاً لأطلع ما دون به ... شيئا مريعاً .. شيئاً يكشف لي مدى التغير المفاجئ لجارتي أم " سميرة " والسبب الرئيسي لتغير تصرفات زوجي ... أنه هو ...لا غيره ...من اهتم بقضيتها.... شعر بواجبه الإنساني تجاه هذه المخلوقة الضعيفة ... ليجد لها السكن والماؤى .... بعد أن تابع إجراءات ابنتها " سميرة " وإصدار شهادة ميلادها ... باسم والدها السجين ....نعم والدها الحقيقي ... فمنذ أن دلفا إلى هذه البلاد حتى تعرضا إلى السرقة برا ... ونهب حقائبهما وممتلكاتهما ... وكانت من ضمنها ... مجموعة أوراق وسندات وقروض قد سرقت منهم ... فلم يستطع أبا " سميرة " فعل شيء بعد أن قبض عليه ... سداد القرض الذي لم يمضي على استلامه شهراً واحداً وبالفعل سجن ولعدم وجود أوراق رسمية ... تثبت ذلك حينها ضاعت ام " سميرة " وابنتها في هذه الحياة الظالمة ... وعلمت حينها من زوجي أنها كانت تخرج من الصباح لتزور زوجها المسجون ..ثم تمضي إلى مقر السفارة لتنهي إجراءات المعاملة الخاصة بهم ... فلا تعود إلا بعد حلول الظلام ... وعملت أيضاً أنها كانت تخيط مما يتسنى لها الوقت لسداد الدين عن زوجها السجين وبالفعل أكمل زوجي دينه الناقص عليه ... ليتم إجراءات خروجه بعد أسبوع ... ياألهي ... كل هذا يحدث دون أن أدرك هذا ... وكيف حصل بي إن شككت بزوجي في مسألة خيانته لي ... ما كان علي إن افعل هذا ... ولما لم يطلعني بالأمر ... أكان الأمر يستحق السرية التامة فيها ... بكيت حينها أكثر وأكثر ... عندما ضننت بهما سوء ...أنه زوجي ... هذا زوجي الملاك الطاهر ... الإنسان الرحيم العطوف ... كيف له أن يغفر لي لو علم ما كنت أظن به ...كيف سيسامحني بعد ما فعلت به ... يا حسرتي ..أدركت حينها أنني لا أستحقه ... أنه فعلا رجل منبع الخير فيه كامل ...
بكيت ورجوت من الله أن يغفر لي ... وحينها لم انتظر منه شيئا ...بل بادرت إلى تقديم المعاونة والمساعدة وشد أزرهما في إنهاء هذه المعاملة الخاصة والإنسانية ... وبالفعل خرج أبو " سميرة " والذي لم يكن على دين مثلنا ... فأسلم ... بعد أن علم وتأثر من موقف زوجي وأسلمت معه زوجته أم " سميرة " ..أيضا ... وبعد مضي تسعة أشهر ... أرد الله أن أضع طفلي الأول " عبد الله " في نفس الأسبوع الذي اجتاز ونال أبو " سميرة " شهادة الدكتورة بمرتبة الشرف في الشريعة وأصولها ....

" ......... تمت ........ "

معشوقة الملايين

on السبت، 4 يوليو 2009





كنت أحاول أن أعالج الشرود و ضياع خيوط الفهم بين صفحات الكتاب الذي كان بين يدي .... ، كتاب شيق للغاية ... حاولت أن اربط بين المعاني ... لكنها كانت تتمنع ... .فيسرقني من بين لحظات سكون العاصفة نحوها ... هي ...سحرت لبعض ثواني في سراب طيور الليل ... مازلت أحبها من صميم وجداني ... لم تكن امرأة كمثل الأخريات ... لقد كان لها رائحة مميزة ... ونظرة ساحرة ... انسحبت من شرودي فجأة على وقعة كوب القهوة في قميصي ...

عدت إلى كتابي وأنا أسترق النظر خلف أحرفه الخجولة ... كان التشتت الذي ينتابني يزيدني إصرارا على محاولة التركيز وتجميع ما بقي عندي جهد من ذهني لترتيب الأفكار واتساق الإحداث التي جرت مسبقاً ... مازال الاكتئاب يلزمني منذ فترة .... بدأت تطول و تزداد وطأته حدة وقسوة ... ،تذكرت صديقي اللي يرتد دائما عيادة الدكتور خالد للطب النفسي والأسري ... كان أول ما قاله حينما يصل إلى عيادته :

فقط خذ نفساً عميقاً وتذكر أنك متميز دائما ً ...

بعدما أخذت نفساً عميقاً وقع عيني على الكتاب فقلبت الصفحة " يا ألهي !!! "

قالتها في نفسي وأنا انتبه إلى أن خطأ حادا في ترتيب الصفحات هو السبب الحقيقي وراء هذا الاختلال وتشتت الحدث ....كان يصعب علي أن انتبه إلى كل هذا.... أخذت أقلب صفحات الكتاب بدون هدف !! ... كدت أن أمزق صفحاته القديمة .. بغلافه اللون الأصفر البالي اللون ..... لولا أن صوتا نبهني فستوقفت ..... ...كان الصوت بعيدا ... . صوت لرجل أغلظ يمازج أحرف كلماته من الحشرجة و البكاء ... بضع ثواني حتى اتضحت لي معالم وجه ... لقد بدأ نحيفا و قصير القامة يشوب لون بشرته السمرة القاني ِ ... قد أختلط لونه بعروقه المتصلبة حول أطرافه ... خطوات تقربه مني ... حتى داهسة سيارة ذات سرعة مجنونة .... أخذت أنظر للحظات ...كيف أن الموت والحياة لا تفصلهم غير ثواني معدودة ........ إن حرقة فقده مازالت تتقد في قلبي وصراخه مازال يطن في أذنيّ ... وصورته ملطخـ بالدماء مازلت أتذكره للتو كيف حصل كل هذا في أقل من دقيقة !!
أحسست بقشعريرة تستبد بي وكادت آن تقفز دمعة من مقلتي لولا أني اجتهدت في قبضها ، كان للموت حكايات عندي ..وفصولها دموع امتدت لليالٍ عديدة ... . وللحزن ولادة جديدة في كتلتي الشعورية ... .مثل كل البشر و مثل كل الأنفاس التعيسة ..... التي تستهلك نسائم الدخان في قبر الأحزان ...
انتبهت عندما عدت إلى الكتاب بحثت الصفحة التي كنت أسترق كلماتها ....... فتنبهت إلى أن الصفحة المائة كانت تجاور الصفحة قد تجاوزت صفحة المائة والخمسون .... قلبت صفحاته المجاورة فاكتشفت أن خطأ في التنسيق يمتد بين الصفحات العشرين السباقة للخمسين ... . الحق أني لم امتعض أبدا من هذا الخلل الفني،.... فقد كان يكفي أن انتبه إلى التعرج الذي يصيب الحدث ..... و إلى عدم موافقة الكلمات الأخيرة و الكلمات الأولى للصفحات الموالية ........لكني كنت دائما حسن النية في مطالعاتي .... مما جعلني ازداد حيرة في الفهم و تقصي المعنى ......كان شكي في قدرتي على إدراك نوايا الكاتب........ و التعرف على النسق الذي اختاره لقصته ( معشوقة الملايين ) .... كما أن الاحتفاء النقدي الذي صاحب توزيعه زادني غشاوة ارتد فيه العيب لى ...
تناهى إلى مسامعي صوت صاخب .... من بعيد ... أخذت ألمح المارة .... مضت سيارة ذات محرك قديم يصاحبه صرير حاد للأذنين تعالت أصواتهم مع اقترابهم .... .وحينما مر من أمام عيناي رأيت صورة لطفل بينهم صامتاً ... ينظر بشيء من الأسى والدمع يتراقص في محجريه بألم ... مضت الحافلة من أمامي تزفها صوت محركها اللعين بصوته الحاد ...
انغمست مجددا في القراءة وقد ترتبت عندي الأحداث و تكشف لي بعض المعنى و أنا أعيد قراءة الصفحات الملتبسة ... تذكرت يومها كيف كان للكتاب غريب بمحتواه إذ شدني منذ البداية حينما كنت أمضى العطلة في لندن فرأيت يومها سيدة أجنبية تناهز سن الثلاثين ... قد غفت قليلا بالحديقة العامة للميدان .. فوقع نظري على كتاب كانت تحتضنه في صدرها ...... وحينما اقتربت لرؤية عنوان الكتاب .... استفاقت وتلاقت أعيننا ببعض ....ابتسمت بعفوية ومدت لي الكتاب ..بعد أن كتبت شيء في أخر صفحاته .... تذكرتها فأخذت أسترق راحة الكتاب في أنفاسي ... كم كان لغباره رائحة حملت في أنفاسي نشوة لملاقاة تلك المرأة ....وبينما أنا كذلك أذا أتى صوت صفير يصاحبه قهقهات كبيرة ... اعتدلت في جلستي ... واسترددت بعض الثقة في اتزان الذهن عندي .....وأنا أتقمص دور المخبر في تقصي الحقائق .. لم أعثر عن كائن حيّ حولي ... ولكن المكان بدأ ينسحب بضباب كثيف ذات رائحة نتنه .... صوت البومة تعلو حيناً وتتلاشى حيناً أخر ... وسط الظلمة .... والخوف يعم المكان ... تذكرت تلك الحسناء ... وما كتبت في أخر كتابي ... ... .كانت الحكاية تحملني أحيانا إلى العنوان ...... الذي توغل بي في طوارئ الأفكار و تنزعني عن المكان على الرغم من أن الحسرة تتوعدني بالعودة، كلما تذكرت أني لم استطع العودة إلى الكتابة منذ مدة طويلة .. سبحت ابتسامة الظفر وأنا أكتشف مادون في أخر الكتاب ... وما أن فتحته حتى ذهلت .... ما هذا .؟؟؟

قلتها في نفسي بعد أن تلألأت عيناي بخطوط وخربشات في صفحة فهرسه..... عدة توقيعات قد تزاحمت في نهاية صفحته ....حملت معه كل الأمنيات ... أخذت أتأمل كل ما خط ودون به .... و يا للصدمة ...... فالكتاب كان يعني بحق في عنوانه .. عنوانه الذي انتقل بين عدة أشخاص ممن هم على شاكلتي .... فقط على شاكلتي .. ... ولمعشوقة الملايين .. .!!


محل أبو حمــيد

on الأربعاء، 1 يوليو 2009


في منطقة الإحساء وبالقرب من قرى منطقة القطيف .. بإحدى الأحياء القديمة الشعبية والتي ينعدم بها جميع الخدامات المرافقة لها ..فالماء ينقطع دائماً .. ليسلك أهالي الحي بالاصطفاف على طابور الانتظار في أخذ موعد لتعبئة أحدى صهاريج المياه الصالحة للشرب منظر يتكرر باستمرار بإضافة لانعدام الكهرباء الشبه التام وانقطاع الطرق من السفلتة ليصبح المكان وكأنها قرية نامية لم يولد الحياة بها ..اذكر حينها أن أهالي الحي جميعاً يأتون إلى محل أبو حميد والذي يوفر احتياجات البشر بشكل تقريبي وأن كانت الأسعار باهظة الثمن لصعوبة توفر المتطلبات بشكل مستمر ... كان ذلك في اليوم الخامس من شهر ربيع الأول قبل عشرين سنة وربما أكثر .. في ذلك الصباح البارك .. ومازال رائحة الطين تفوح عبق التراث بذلك الحي ..نسيم يترقرق حولها حركة النشاط دائمة من قبل نساء الحي .. كن يتزاورن في الصباح ويتعاون في أعداد طعام الغذاء لضيف قادم .. وما أن ينتهين كل واحدة منهن تأخذ نصيبها وتذهب إلى بيتها .. كنت أذهب مع أمي دائما لا من أجل معاونتها لصاحبة الدار .. وهي كانت زوجة التاجر " أبو حميد " ولكن من أجل أن ألهو مع بنات الجيران واللاتي يتجمعن عند مدخل الدار نلهو كيفما نشاء ونلعب طوال اليوم .. حتى ينتهين أمهاتهن عن العمل فترحل كل واحدة منا مع والدتها . لم أنسى تلك الأيام الماضية . والتي بقيت في ذكرها طوال نفوسنا ... لم تغب لحظة عن فكرنا خصوصاً وإن كبرنا قليلاً فمنعنا عن الذهاب واللعب فكل واحدة منا تلتزم بيت والدها ..حتى تتزوج فبعدما ها لها مطلق الحرية تذهب أم لا ..

فمنعت عن الذهاب وبقيت في منزل والدي أرتب وأغسل وأنظف ما استطعت القيام به .. بينما كان والدي فلاحاً لمزرعة عمدة الحي .. لقد كان ثرياً فكان يعطي لوالدي صاع أو صاعين من التمر حين حصاده وجنيه مع القمح آنذاك ... كان هذا أهم غذاء بالنسبة لنا إلا أن يتصدق علينا أبو حميد ليرسل إلينا بقطع اللحم مع الأرز المتبقية من غذاء الولائم والتي كانت دائما ما يقيمها في منزله ...خصوصاً عند مناسبة حمل زوجته أو إنجابها أو حتى ربحه في تجارته أو بمناسبة عودته من السفر سالماً غانماً ... أذكر أنها كانت دائما ما تنجب له البنات وكان يتضايق من ذلك إذ يرغب في ابن يرفع عنه حمولته ويحيّي اسمه بعد مماته ... وهذا بالتأكيد مالا يكون لدى البنات وفي أحدى الأيام عمت ضجة كبرى في منزلنا إذا تقدم أبو حميد نفسه بذاته ليتزوج بعمتي أخت والدي الصغرى .. حينها لم تتزوج بعد ... فرضت عمتي لطيفة الاقتران به إلا أن ضغط والدي ووالدتي بها اجبرها بالقسوة على الموافقة عليه ... وانقطعت والدتي عن زيادة زوجة أبو حميد الأولى ..أم نورة ..والتي أنجبت له خمس بنات لتبقى باتصال دائما بعمتي لطيفة .. حتى بعد زاوجها به ... وبعد عدة أشهر حملت عمتي بابنها البكر " حميد " والذي أصبح اللقب الذي يعرف به زوجها التاجر ناصر ..لم أنسى ذلك اليوم الذي عم الفرح والسعادة بقدومه في منزل عمتي لدرجة أن أبناء ورجال الحي أتوا مهنئين لأبيه وسادت الذبائح في تلك الأيام بينما انطفئ النور من باب زوجته الأولى " أم نورة " وعمت بأرجاء منزلها الظلام والألم والبكاء ..لم أشاء لنكن نحن سبب لفراق عائلة كاملة ولكن هذا القدر الذي حكم بهم ... لم أنسى امتداد المشاكل والمنازعات بين عائلتنا وبهم .. والتي امتدت لشهور وأيام طويلة ... لم أرغب في أن يكون هنا حالنا ...يشار إليه أصبع الاتهام بعد أن كتب أبو حميد المحل باسم عمتي وابنها فقط دون بقية بناته وزوجته الأولى ... كم كان هذا مؤلما بحق وقاسياً بل أنه الظلم بعينه أن تجني عمتي لطيفة من وراء ابنها ثروة طائلة كبيرة بينما ينحرم منها بنات في حكم الأيتام ... لا يراهن والدهن إلا بالأسبوع مرة واحدة ... وأحياناً يمتد لأكثر ..كم كنت أتألم لحالهن البائسة وتألمهن لوضعهن آنذاك ..وبعد مضي سنوات عدة انقطع إخبارهن عنا .. فلا نعلم أهن على قيد الحياة أم لا ...وقد عاش أبو حميد وعمر ماله ليصبح من أكبر تجار تلك المنطقة في القطيف .. فلم يكن يعترف ببناته السابقات الخمس فكان يعترف ببناته السابقات الخمس فكان يزجر من يناديه أبو نورة ليصرخ أبو نورة ....إلا تفهم يا هذا ..؟؟

هكذا دوماً يرددها ... كان يعتز بأبناءه من عمتي لطيفة والتي قد أنجبت له من بعد " حميد ... خلف ومتعب وأسماء .." فقد أولاهم رعاية ومحبة وحنان متزايد في حين أن بناته الأخريات قد فقدن كل هذا ... ليبقين بجوار والدتهن المغلوبة على أمرها ..يعيشن ما يجدن أمامهن ولا يسألن الناس حاجة قط ..

مضت سنين وأنتقلنا إلى المدينة الدمام واكملت فيها دراستي حتى تخرجت من الكلية وعُينت في أحدى المدراس الثانوية القريبة من منزلنا ... وفي أحدى الأيام كنت أواخر الفترة الدراسية للعام الدراسي ...لم انسى ذلك اليوم .. كان يوم رصد وتصحيح أوراق الأختبارات

الذي قمت بمساعدة زميلتي في رصد الدرجات خصوصاً وأننا قد تعينا في مدرسة واحدة لتعليم البنات ...ذهلت .. وانصدمت عندما وجدت اسم احدى بناته ... زوج عمتي طالبة عند زميلتي هيفاء .. فتوقفت لحظات خلت أنني قد بهت من الاحساسيس والمشاعر فكم من ستوات وأنا في هذه المدرسة ... ولا أعلم عنها شيئاً إلا حينما ستتخرج إلى الجامعة ...كم كان الموقف صعباً للغاية ..شعرت وأنها تتحملني كل يوم من الحقد والكره لأننا قد سلبنا والدهن منهن ... كم كان هذا صعبا للغاية .. شعرت فنظرت إلى زميلتي هيفاء قائلة لي :

سلمى مابك ... هل هناك من شيء ..؟؟

اجبتها بتوتر ملحوظ قائلة :

كلا .. ولكن يشبه هذا الاسم عليّ لفتاة اعرفها منذ فترة !!

ابتسمت وهي تنظر بكشف الدرجات قائلة :

اتقصدين رقية بنت ناصر

نعم هي بذاتها ..؟؟

أنها طالبة هادئة متفوقة مهذبة ..لم أرى مثلها قط ..

ما رايك بحالها .. أهي جيدة ..!!

ربما .. ولكنها دائماً ما تنزوي إلى ركن لتقرأ أو لتكتب شيئاً لا تشارك زميلاتها في الحديث معهن ..!!

لم أقصد هذا .. بل قصدت حالتها الأقتصادية !! ... المادية كيف تجدينها ..؟؟

قلت هذا سريعاً لأتحقق من الامر فأجابت لي ببرودة لم اعتد بها ..:

الواقع أنني لم ألحظ شيئاً كهذا ولكن ربما أنها حالة جيدة مستقرة !!

صمت وأردفت لي قائلة :

دعينا منها ومن هذا كله لنكمل ما تبقى لنا !!

وعدنا لرصد الدرجات ولكنني كنت متيقنة من أنها هي بذاتها فأرجعت الأمر لتشابه الاسم ولكنني وجدت أن المفترض أن يكن لديها أخوات قد درسن هنا أو مازلنا يدرسن فيه .. ولكنني اكتشفت متأخرة إذا كانت الصغرى من هن و الأخريات قد ذهبن إلى الجامعة لاستكمال دراستهن ..حينها أحستت بالألم لتحملهن مرآتي أمامهن وتخيلهن عمتي التي سلبت أباهن منهن .. صمت ومضيت لوحدي أتجرع مرارة الألم والحزن لهن .. لم أكن أتوقع أن الحياة قصيرة إلى هذه الدرجة .. أو تافهة إلى هذا الحد ... ولكنت مكان عمتي ..لقتلت نفسي مليون مرة ... عن إلا أواجه لمثل هذا الموقف ولكن ما ذنبها هي أيضا.. فهي مجبرة به قسراً من والدي لأنه كان صاحب مال كبير وهو بحاجة لمن يخلف له في كل ما جمعه وتعب من أجله ...... مضت بصمت أفكر في حالهن الآن ... كيف يكون وكيف يشعرن بوجود الأب أمامهن صورة دون أحساس أو حياة ....صورة صامتة بقية في أذهانهن منذ الصغر .. هل احتلت اكبر تفكيرهن به أم أنه بقي صورة في أحدى أركان زوايا عقلهن وقد كست بأغبرة الزمان السحيق ...في الواقع لو كنت مكانهن لما علمت بما افعل أو أصنع لأواجه الناس وهم يشيرون بي أن أباهن قد تركهن لوالدتهن الضعيفة من أجل والد ..... وحق له ذلك ولكن أين المشاعر والوفاء والمحبة .... أين مضت ..؟؟



ألدرجة شبه النسيان المتعمد لهن ...لا .... ولن أرضى بهذا لهن ..... ولكن ماذا عساي ان أفعل .....!!



أو حتى ان أصنع شيئا ً ..... وكل شيء كان مقدراً في السابق ..... مضت سنوات حتى وهن وضعف أبو حميد لكبر سنه بينما لمعت أسماء بناته الخمس بقوة ليرتج أصداء المكان بذكرهن ...



أحداهن طبيبة ناجحة لجراحة الأعصاب ..وأخرى مديرة بنك مالي كبير في البلد .... والثالثة موجهة تربوية ... والرابعة سيدة أعمال كثيرة ...أخذت تعمل بالتجارة بأوسع أبوابه أم الخامسة فدائما ما تقام لها معارض لرسوماتها التشكيلية ....بحق لقد ناضلت أمهن ونجحت في تنشئتهن وتربيتهن بحق ..أصبحت في حال يضرب لهن المثل ...والحكم في أروع نماذج الصبر والمثابرة والتحمل والقوة في ظل الضعف والفقر والألم وانعدام الأمان ....بحق كانت تستحق والدتهن الشكر والتقدير لما بذلته من أجلهن .....فتألم أبو حميد عن ملاقاتهم أو العودة إليهم بعد ما صح به ضميره المختنق منذ زمن وبالفعل جبن عن فعل شيء إلا أنه قام بكتابة المحل باسم والدتهن لم تعنت حالته عمتي بل بقيت في حال لا يرثى لها بقيت معه تلازمه مدة مرضه الذي لازمه بضع شهور حتى وافته المنية وترملت عمتي سريعاً وهي في ريعان شبابها ..... كيف لا وهي قد تزوجته منذ الصغر فتركها للفقر والألم مع أبنائها ومضت تطرق أبواب الخير فترة حتى استقبلتها أم نورة بحنان متزايد لعملها بظلم الذي حل بها منذ الصغر واجتمعا في بيت واحد وباعا محل أبو حميد إلى تاجر أخر كان منافسا له منذ القدم ... حينها عاشوا في أحسن حال من التكاتف والتراحم والترابط فيما بينهم ليبقى لي صورة أم نورة وعمتي باقية في نفسي وقلبي ...إذ لم أصدق الترابط التي حصل بينها سريعاً .... وكان شيئاً لم يكن وكأنهن أخوات وأبنائهن واحد لا فرق بينهم اعتراف أنهم وجدوا صعوبة لتقبل هذا الأمر إلا أن في نهاية المطاف يبقون أخوة من أب واحد ...... من عائلة واحدة لرجل واحد .... هو أبو حميد .....



" ...... تمت .........."