في منطقة الإحساء وبالقرب من قرى منطقة القطيف .. بإحدى الأحياء القديمة الشعبية والتي ينعدم بها جميع الخدامات المرافقة لها ..فالماء ينقطع دائماً .. ليسلك أهالي الحي بالاصطفاف على طابور الانتظار في أخذ موعد لتعبئة أحدى صهاريج المياه الصالحة للشرب منظر يتكرر باستمرار بإضافة لانعدام الكهرباء الشبه التام وانقطاع الطرق من السفلتة ليصبح المكان وكأنها قرية نامية لم يولد الحياة بها ..اذكر حينها أن أهالي الحي جميعاً يأتون إلى محل أبو حميد والذي يوفر احتياجات البشر بشكل تقريبي وأن كانت الأسعار باهظة الثمن لصعوبة توفر المتطلبات بشكل مستمر ... كان ذلك في اليوم الخامس من شهر ربيع الأول قبل عشرين سنة وربما أكثر .. في ذلك الصباح البارك .. ومازال رائحة الطين تفوح عبق التراث بذلك الحي ..نسيم يترقرق حولها حركة النشاط دائمة من قبل نساء الحي .. كن يتزاورن في الصباح ويتعاون في أعداد طعام الغذاء لضيف قادم .. وما أن ينتهين كل واحدة منهن تأخذ نصيبها وتذهب إلى بيتها .. كنت أذهب مع أمي دائما لا من أجل معاونتها لصاحبة الدار .. وهي كانت زوجة التاجر " أبو حميد " ولكن من أجل أن ألهو مع بنات الجيران واللاتي يتجمعن عند مدخل الدار نلهو كيفما نشاء ونلعب طوال اليوم .. حتى ينتهين أمهاتهن عن العمل فترحل كل واحدة منا مع والدتها . لم أنسى تلك الأيام الماضية . والتي بقيت في ذكرها طوال نفوسنا ... لم تغب لحظة عن فكرنا خصوصاً وإن كبرنا قليلاً فمنعنا عن الذهاب واللعب فكل واحدة منا تلتزم بيت والدها ..حتى تتزوج فبعدما ها لها مطلق الحرية تذهب أم لا ..
فمنعت عن الذهاب وبقيت في منزل والدي أرتب وأغسل وأنظف ما استطعت القيام به .. بينما كان والدي فلاحاً لمزرعة عمدة الحي .. لقد كان ثرياً فكان يعطي لوالدي صاع أو صاعين من التمر حين حصاده وجنيه مع القمح آنذاك ... كان هذا أهم غذاء بالنسبة لنا إلا أن يتصدق علينا أبو حميد ليرسل إلينا بقطع اللحم مع الأرز المتبقية من غذاء الولائم والتي كانت دائما ما يقيمها في منزله ...خصوصاً عند مناسبة حمل زوجته أو إنجابها أو حتى ربحه في تجارته أو بمناسبة عودته من السفر سالماً غانماً ... أذكر أنها كانت دائما ما تنجب له البنات وكان يتضايق من ذلك إذ يرغب في ابن يرفع عنه حمولته ويحيّي اسمه بعد مماته ... وهذا بالتأكيد مالا يكون لدى البنات وفي أحدى الأيام عمت ضجة كبرى في منزلنا إذا تقدم أبو حميد نفسه بذاته ليتزوج بعمتي أخت والدي الصغرى .. حينها لم تتزوج بعد ... فرضت عمتي لطيفة الاقتران به إلا أن ضغط والدي ووالدتي بها اجبرها بالقسوة على الموافقة عليه ... وانقطعت والدتي عن زيادة زوجة أبو حميد الأولى ..أم نورة ..والتي أنجبت له خمس بنات لتبقى باتصال دائما بعمتي لطيفة .. حتى بعد زاوجها به ... وبعد عدة أشهر حملت عمتي بابنها البكر " حميد " والذي أصبح اللقب الذي يعرف به زوجها التاجر ناصر ..لم أنسى ذلك اليوم الذي عم الفرح والسعادة بقدومه في منزل عمتي لدرجة أن أبناء ورجال الحي أتوا مهنئين لأبيه وسادت الذبائح في تلك الأيام بينما انطفئ النور من باب زوجته الأولى " أم نورة " وعمت بأرجاء منزلها الظلام والألم والبكاء ..لم أشاء لنكن نحن سبب لفراق عائلة كاملة ولكن هذا القدر الذي حكم بهم ... لم أنسى امتداد المشاكل والمنازعات بين عائلتنا وبهم .. والتي امتدت لشهور وأيام طويلة ... لم أرغب في أن يكون هنا حالنا ...يشار إليه أصبع الاتهام بعد أن كتب أبو حميد المحل باسم عمتي وابنها فقط دون بقية بناته وزوجته الأولى ... كم كان هذا مؤلما بحق وقاسياً بل أنه الظلم بعينه أن تجني عمتي لطيفة من وراء ابنها ثروة طائلة كبيرة بينما ينحرم منها بنات في حكم الأيتام ... لا يراهن والدهن إلا بالأسبوع مرة واحدة ... وأحياناً يمتد لأكثر ..كم كنت أتألم لحالهن البائسة وتألمهن لوضعهن آنذاك ..وبعد مضي سنوات عدة انقطع إخبارهن عنا .. فلا نعلم أهن على قيد الحياة أم لا ...وقد عاش أبو حميد وعمر ماله ليصبح من أكبر تجار تلك المنطقة في القطيف .. فلم يكن يعترف ببناته السابقات الخمس فكان يعترف ببناته السابقات الخمس فكان يزجر من يناديه أبو نورة ليصرخ أبو نورة ....إلا تفهم يا هذا ..؟؟
هكذا دوماً يرددها ... كان يعتز بأبناءه من عمتي لطيفة والتي قد أنجبت له من بعد " حميد ... خلف ومتعب وأسماء .." فقد أولاهم رعاية ومحبة وحنان متزايد في حين أن بناته الأخريات قد فقدن كل هذا ... ليبقين بجوار والدتهن المغلوبة على أمرها ..يعيشن ما يجدن أمامهن ولا يسألن الناس حاجة قط ..
مضت سنين وأنتقلنا إلى المدينة الدمام واكملت فيها دراستي حتى تخرجت من الكلية وعُينت في أحدى المدراس الثانوية القريبة من منزلنا ... وفي أحدى الأيام كنت أواخر الفترة الدراسية للعام الدراسي ...لم انسى ذلك اليوم .. كان يوم رصد وتصحيح أوراق الأختبارات
الذي قمت بمساعدة زميلتي في رصد الدرجات خصوصاً وأننا قد تعينا في مدرسة واحدة لتعليم البنات ...ذهلت .. وانصدمت عندما وجدت اسم احدى بناته ... زوج عمتي طالبة عند زميلتي هيفاء .. فتوقفت لحظات خلت أنني قد بهت من الاحساسيس والمشاعر فكم من ستوات وأنا في هذه المدرسة ... ولا أعلم عنها شيئاً إلا حينما ستتخرج إلى الجامعة ...كم كان الموقف صعباً للغاية ..شعرت وأنها تتحملني كل يوم من الحقد والكره لأننا قد سلبنا والدهن منهن ... كم كان هذا صعبا للغاية .. شعرت فنظرت إلى زميلتي هيفاء قائلة لي :
سلمى مابك ... هل هناك من شيء ..؟؟
اجبتها بتوتر ملحوظ قائلة :
كلا .. ولكن يشبه هذا الاسم عليّ لفتاة اعرفها منذ فترة !!
ابتسمت وهي تنظر بكشف الدرجات قائلة :
اتقصدين رقية بنت ناصر
نعم هي بذاتها ..؟؟
أنها طالبة هادئة متفوقة مهذبة ..لم أرى مثلها قط ..
ما رايك بحالها .. أهي جيدة ..!!
ربما .. ولكنها دائماً ما تنزوي إلى ركن لتقرأ أو لتكتب شيئاً لا تشارك زميلاتها في الحديث معهن ..!!
لم أقصد هذا .. بل قصدت حالتها الأقتصادية !! ... المادية كيف تجدينها ..؟؟
قلت هذا سريعاً لأتحقق من الامر فأجابت لي ببرودة لم اعتد بها ..:
الواقع أنني لم ألحظ شيئاً كهذا ولكن ربما أنها حالة جيدة مستقرة !!
صمت وأردفت لي قائلة :
دعينا منها ومن هذا كله لنكمل ما تبقى لنا !!
وعدنا لرصد الدرجات ولكنني كنت متيقنة من أنها هي بذاتها فأرجعت الأمر لتشابه الاسم ولكنني وجدت أن المفترض أن يكن لديها أخوات قد درسن هنا أو مازلنا يدرسن فيه .. ولكنني اكتشفت متأخرة إذا كانت الصغرى من هن و الأخريات قد ذهبن إلى الجامعة لاستكمال دراستهن ..حينها أحستت بالألم لتحملهن مرآتي أمامهن وتخيلهن عمتي التي سلبت أباهن منهن .. صمت ومضيت لوحدي أتجرع مرارة الألم والحزن لهن .. لم أكن أتوقع أن الحياة قصيرة إلى هذه الدرجة .. أو تافهة إلى هذا الحد ... ولكنت مكان عمتي ..لقتلت نفسي مليون مرة ... عن إلا أواجه لمثل هذا الموقف ولكن ما ذنبها هي أيضا.. فهي مجبرة به قسراً من والدي لأنه كان صاحب مال كبير وهو بحاجة لمن يخلف له في كل ما جمعه وتعب من أجله ...... مضت بصمت أفكر في حالهن الآن ... كيف يكون وكيف يشعرن بوجود الأب أمامهن صورة دون أحساس أو حياة ....صورة صامتة بقية في أذهانهن منذ الصغر .. هل احتلت اكبر تفكيرهن به أم أنه بقي صورة في أحدى أركان زوايا عقلهن وقد كست بأغبرة الزمان السحيق ...في الواقع لو كنت مكانهن لما علمت بما افعل أو أصنع لأواجه الناس وهم يشيرون بي أن أباهن قد تركهن لوالدتهن الضعيفة من أجل والد ..... وحق له ذلك ولكن أين المشاعر والوفاء والمحبة .... أين مضت ..؟؟
ألدرجة شبه النسيان المتعمد لهن ...لا .... ولن أرضى بهذا لهن ..... ولكن ماذا عساي ان أفعل .....!!
أو حتى ان أصنع شيئا ً ..... وكل شيء كان مقدراً في السابق ..... مضت سنوات حتى وهن وضعف أبو حميد لكبر سنه بينما لمعت أسماء بناته الخمس بقوة ليرتج أصداء المكان بذكرهن ...
أحداهن طبيبة ناجحة لجراحة الأعصاب ..وأخرى مديرة بنك مالي كبير في البلد .... والثالثة موجهة تربوية ... والرابعة سيدة أعمال كثيرة ...أخذت تعمل بالتجارة بأوسع أبوابه أم الخامسة فدائما ما تقام لها معارض لرسوماتها التشكيلية ....بحق لقد ناضلت أمهن ونجحت في تنشئتهن وتربيتهن بحق ..أصبحت في حال يضرب لهن المثل ...والحكم في أروع نماذج الصبر والمثابرة والتحمل والقوة في ظل الضعف والفقر والألم وانعدام الأمان ....بحق كانت تستحق والدتهن الشكر والتقدير لما بذلته من أجلهن .....فتألم أبو حميد عن ملاقاتهم أو العودة إليهم بعد ما صح به ضميره المختنق منذ زمن وبالفعل جبن عن فعل شيء إلا أنه قام بكتابة المحل باسم والدتهن لم تعنت حالته عمتي بل بقيت في حال لا يرثى لها بقيت معه تلازمه مدة مرضه الذي لازمه بضع شهور حتى وافته المنية وترملت عمتي سريعاً وهي في ريعان شبابها ..... كيف لا وهي قد تزوجته منذ الصغر فتركها للفقر والألم مع أبنائها ومضت تطرق أبواب الخير فترة حتى استقبلتها أم نورة بحنان متزايد لعملها بظلم الذي حل بها منذ الصغر واجتمعا في بيت واحد وباعا محل أبو حميد إلى تاجر أخر كان منافسا له منذ القدم ... حينها عاشوا في أحسن حال من التكاتف والتراحم والترابط فيما بينهم ليبقى لي صورة أم نورة وعمتي باقية في نفسي وقلبي ...إذ لم أصدق الترابط التي حصل بينها سريعاً .... وكان شيئاً لم يكن وكأنهن أخوات وأبنائهن واحد لا فرق بينهم اعتراف أنهم وجدوا صعوبة لتقبل هذا الأمر إلا أن في نهاية المطاف يبقون أخوة من أب واحد ...... من عائلة واحدة لرجل واحد .... هو أبو حميد .....
" ...... تمت .........."
4 التعليقات:
الله
القصة مرة حلوة
ننتظر المزيد منك
أختك ياسمين محمد- جدة
جدا أعجبتني القصة
بوركت عبير
أ/ نورة المزيني
القصة عجباني مرة بصراحة
وماكنت متوقعة القصة بتكون بنهايه دي
فعلا استاذتي الفاضلة
أنت رائعة جدا بكتاباتك
القصة جدا رائعة
لك خالص الود
نوير حمد
الشرقية
إرسال تعليق