قصص قصيرة

أعَطنَي حَريتَي..((ولكَن))..لاَتطلق يَديّه!

فوق طموحي

on الجمعة، 2 أكتوبر 2009




كانت نهايتي التي وضعتها بين يدي .. وخططت لها منذ زمن طويل ..

فلم يعد لندم مكان في نفسي والألم والحسرة قد أصبح جزء من كياني ... إذ كانت طموحي التي لا تنتهي هي سبب حالتي هذه .. طموحي التي لا حدود لها .. قد ألقت بي على قارعة طريق عمري ... المتبقي في رصيد حياتي ..


أحيانا أتعجب من نفسي كيف لم ارتضي بتلك الحياة الهانئة البسيطة .. في كنف ورعاية زوجي .. زوجي الذي ذهب ولم يعد ... ولن يعود إليّ أبداً ... أبدا! ...


مادمت قد مهدت له طريقاً يملأ حافتيه النعيم والسعادة فكيف به يتطلع إلى العودة إليّ ... وإلى ما هو ليس بين يدي .. فلما لا يبقى به دون أن يكتفي بالنظر به ... ذلك يومأ لن أنساه ولن أنساه أبداً .. لقد حطمت حياتي وسعادتي .. بيدي أنا .. دون غيري ..


طمعت وما في الطمع من خيراً يرجى ... ويا ليتني رضيت بما لدي واكتفيت . وحمدت الله على نعمته البسيطة التي منّه ليّ .. بل على العكس .. لقد استنكرت لحالي .. وانتقمت من النعمة التي أنا بها إلى نعمة قد انقلبت على نقمة ..كبيرة .. إنها نقطة كبيرة في حياتي .. وعجزت أن أمحوه ...لقد ظل عالقاً في نفسي تلوكه ألسنة الناس بالحديث عنه وما عساني أن أفعل لأطمس ما صنعت سوى أن اعتزل العالم في حجرتي .. فلا أكاد أن اسمع بما يقولونه .. أو ما سيقولونه .. لن ألومهم .. لن أتذمر .. منهم .. ولن أرفض ...أو أعراض ... بل الحق كل الحق معهم .. أن سخروا بي .. أو استهزؤوا عليّ ... فأنا من زرعت هذا المصير لنفسي وسأجني حصاده بنفسي أنا لا بغيري ...


كان ذلك منذ زمن طويل ... ربما ما يقارب أربع سنين .. كانا للتو قد تزوجنا ... وحلقنا إلى روما لقضاء شهر العسل فيه .. كانت أجمل لحظات حياتي ... وذكريات عمري الماضية .. كانا في سعادة لا حدود لها .. ومضت الأيام سريعاً ..


حتى عدنا إلى موطنا الأصلي .. وعدنا إلى إعمالنا بعد ما قضينا أجازة كانت فيها لحظة العمر التي لا تمحى ..
كان لا يعكر صفو حياتنا شيء .. سوى أن زوجي كان طموحاً وجاداً ورغب في استكمال دراسته العليا ( الماجستير ) .. لم أعارضه فقد كانت طموحي أكبر منه ... وودت لو يكون يوماً سفيراً أو وزيراً ليشار إليّ بزوجته وحرمه المصون .. تمنيت هذا من قلبي .. فقد كان حلم حياتي بأن أكون ثرية جداً ... وبجوار زوجي أيضا نطوف العالم بأجمع .. لا يحدنا شيئاً ولا يستحيل علينا من شيء ..



كم حملت بهذا طويلا وكم كنت أتذمر من حياتي واشرح معاناتي إليه ..ورغبتي وطموحي التي لا حدود لها ..حاول جاهداً إن يحقق لي رغباتي ولكن لم يكن يستطيع هذا كله .. كنت اعمل موظفة في البنك ... أعمل به بدوام كامل لأتقاضى أجراً كبير يخولني لأصبح يوماً ما ثرية جداً ... ولقد شجعت زوجي على ذلك ...


حتى أتى يوماً قدمت إلى فتاة تقارب من سن الخامسة والعشرين أو أكثر .. كانت ثرية جداً جدأ .. لقد ورثت من أباها أموال طائلة .. لا تقدر ... بالملايين .. دلفت إلينا فنهضت المديرة سريعاً بكل احترام وإجلال لها .. لمحتها وهي تدخل في شيء من الكآبة التي يغم على محياها النظرة وخلفها الخادمات يخدمنها جميعهن تتهافت إليها بهيئة واحدة ولباس واحد .. وإن اختلفن في أعمالهن أحدهن لتحمل حقيبتها والأخرى ...لتحمل عباءتها والثالثة لتمدها بنظارتها الشمسية والرابعة لتقدم لها جهازها النقال والخامسة .. والسادسة .. الخ .. ومن ثم يقفن جميعهن خلفها صفاً واحداً كأنما هن جنودا مجندة وهي القائد لميسرتهن ..


أخذت أتأمل تلك الصورة التي لم تمحو من ذاكرتي أبداً .. وتخيلت نفسي مكانها أكنت أفعل مثلها أم لا .. بل لن أتنازل عن المجيء إلى البنك .. ولن أتنازل لأرفع سماعة الهاتف .. هن من يأتين إلي لأجراء حساباتي الجارية .. في داخل البلاد ..وخارجه ... من داخل قصري .. آآآآآآآه كم كان حلماً جميلاً ... ربما لن أعيش في موطني الأصلي .. سأرحل بمالي إلى روما .. لأقضي أجمل لحظات عمري كلها .. هُنـاك .. ولكن هذا محال .. إن يحدث في اليوم والليلة معاً .. لذا بدأت بالتقرب من هذه الفتاة شيئاً فشيئاً ..


حتى ما ارتاحت إلى فتحت لي قلبها .. ومالها .. وقصرها .. أتي إليها حيثما أشاء .. طرت فرحاً .. ورقصت طرباً .. فخططي تسير كما رسمت لها في خارطة ذهني .. ونصبتها أمام عيني ... حذرني زوجي من هذا .. تذمر من أسلوبي .. هذا .. وساء أن افعل هذا ..؟؟
حتى أتي يوماً صارحني به .. بصوت يملاه القوة والحنان والرغبة والإقدام إذا قالت لي يومها ..:
أتعلمين أنني حينما أتزوج سأتخلى عن كل ما أملك ..وكل ما لدي في لحظة أن وجدت الإنسان الذي يستحقني واستحقه بصدق .. ولكن هذا محال .. أتعملين لماذا..؟؟
أجبتها وأنا مهتمة بالأمر .. لماذا...؟؟
لأنني أعلم بأنه لا يمكن أن يوجد إنسان بمعنى الكلمة .. طموح .. جاد ... شجاع .. غيور .. كريم ...رحيم .. طيب القلب ... حلو اللسان .. لا يمكن ... لا يمكن أبداً ..!!
تلألأت في مخليتي صورة زوجي لما لا أمنحه كل هذا الثراء مقابل أن يمنحها ما تريده هو .. فقفزت الفكرة في رأسي لتستقر في لساني فقلت لها بلا وعي ...:
بلى يوجد .. ودعي الأمر لي ..
ماذا ستفعلين ..؟؟
قالتها برغبة وبفرح يحيطهما دهشة كبيرة فقلت لها يومها :
أنت تخشين أن يتزوجك رجلاً من اجل مالك .. وليس لذاتك ..أليس كذالك ...!!
أجابتني في لهفة .. نعم هذا صحيح .
فأردفت لها بكل اعتزاز وزهو:
ولكنني لن اخبره بذلك ولن يعلم بهذا سيتزوجك ظنا منه أنك فتاة بسيطة تساوينه أو أقل ..
هتفت :
يا لروعة الفكرة ..أجل ...أجل ..
ولكن يعلم بهذا حينما تخبرينه بهذا ما رأيك ..
أعجبت الفكرة ورحبت به كثيراً .. حينها لم أستطيع البقاء على الأرض من شدة فرحي وسروري .. فأخبرت زوجي بذلك .. ورجوته بأن يتزوجها ..بشرط ما أن تعطيه جميع ما تملك ليعود إلي كعهدنا السابق ... رفض ذلك .. بشدة ..أن يبيع كرامته ورجولته من اجل فكره الاستغلال لفتاة تملك المال الكثير .. أو حتى أن يتخلى من مروءته وشهامته ليوقع بها كل هذا .. سأمت منه .. وحاولت و حاولت مرات عديدة .. وأصريت على قولي ..


مضت أشهر طويلة وأنا أقنعه بفكرتي هذا ... وأُقبح صورة النعمة التي نحن بها ..بدأ يتذمر من الحياة المتوسطة التي كانا نعيشها وأقنعه لعملي بحبه في استكمال دراسته لنيل شهادة الدكتوراه .. ولن يتحقق هذا إلا بوجود المال الوفير الذي يغنينا عن العمل من أجله .. وبالفعل نجحت .. ويا ليتني لم أنحج لفكرتي ... ويا ليتني يومها مت قبل أن أرى الصورة تتضح أمامي ببشاعتها تهزئ بي . فأثرت السعادة من أجلي على البكاء لفراق زوجي ..


وبالفعل بدأ زوجي يتأقلم مع الوضع الجديد والعيش معها ... شيئا فشيئاً حتى بدأ ينسحب من حياتي .. بل ومن قلبي .. كله ليبقى الثراء والجاه مطبوع في قلبي ... أتحرى قدومه على أحر من الجمر ..


بدت الأيام تبتسم لي بون اصفر باهت لم يعد له طعم .. أو رائحة .. بقى ثقيلاً لم أعدها من قبل .. حتى اختفى من حياتي . .بالنهاية حاولت البحث عنه ولكن ما وصلني منه غير روقة الطلاق .. لقد كانت نهاية حتمية ... والتي بدأت أنا في رسمها لأصل بالنهاية بها وأنا لها .. وما فائدة العيش بدون زوجي الحبيب ... لم استسغ طعم الحياة من بعده ...

كرهت نفسي وحق لزوجي فعل ذلك ... لقد أمن مستقبله معها .. ليمضيا طريقهما معاً خصوصا وإن حملت بابنه البكر .. والذي يليه .. لقد أمن لهم حياة مستقرة هادئة .. لا يعكرها شيئاً .. ومضيت أنا وحدي في هذه الحياة .. أنال جزائي الذي كنت أبحث عنه ... وسط دائرة الأوهام الزائفة .... لتمضي السنين وهي ترتقب بي .. تجرعت خلالها مرارة الألم وحرقة القلب ..

فلا زوج بقريب أنعم بحنانه وعطفه لي .. ولا المال الذي سأحقق به طموحي التي ما تزال تزداد علي يوماً بعد يوم .. يأست كثيراً .. وليتني تريثت قليلاً .. لنُت أنا كل هذا الحب والحنان .. فلا يعوضني بحبه لا مال ولا جاه .. ليتني بقيت معه وأصغيت لصوت القلب عن صورة الحال ... ولكن بعدما فات الأوان .. فلو إنني صبرت كما صبر هو لأصبحت زوجة الوزير الآن .. يمتلك عدة شركات عملاقة .. والخاصة بالسفر والطيران .. حينها بكيت عندما رأيت صورته على غلاف أخر الجريدة اليومية ...


ذكر مفاده أنه أفتتح مشروع أخر في منطقة تجارية .. رأيته هو كما هو ..لم يتغير ..ولكنه أزداد وسامة وجمالاً .. ونضارة يشع بها السعادة والصفاء .. أدركت أن سر ذلك هو الحب ... وليس المال ... أدركت أن الحب قد أترسم خيوطه المشعة في نفسه ...شعرت بالقهر .. ورغبة ملحة في البكاء ..فلطمت نفسي الأمارة بالسوء .. وليتني صبرت لكنت نلت ما كنت أطمح به منذ صغري حينما كانت طموحي بريئة يصفو بها النقاء ..!!

" ....... تمت ......."

زمن الحب

on الأربعاء، 16 سبتمبر 2009



كانت "منيرة" تترقب حركات جدتها بصمت قاتل ... تتطلع إليها حيناً وإلى الجد حيناً أخر .... لحظات مضت .... حتى قررت أن تخاطبها قائلة بود ..:
جدتي .... ماذا لديك ..... ؟؟
تمد الجدة يدها قائلة : تمر سكري يابس يا حُبيبتي ...
تعود لسؤالها بود أكبر .. :
وهل تحبين التمر كثيراً يا جدتي ...!!
يا حُبيبتي التمر غذاء الغني قبل الفقير .... والبيت الذي لا يأكل الطعم فهو خاوي ولا طعام لديه ...
تعود لسؤالها مرة أخرى كأنما تحاول أن تقيس نبض جدتها في حالة مزاجها ....:
جدتي هل كان جدي من يحضر التمر آنذاك .... أم كنتم تزرعونه في زرع البيت ...!!
لا بل كان جدك يزرعه حينما كان في عز شبابه وفتوته ....ولكن الآن فجل ما نحمد الله أنّ أحضره لنا ...
هنا انتهزت الفرصة لتطلق تسأولات كانت في خبايا روحها البسيطة أن تتردد عالقة في نبض قلبها :
جدتي وهل كنتي تحبين التمر أكثر من جدي أم جدي أكثر ...!!
هنا علا على خد جدتها المتجعد بالجلد المترهل حمرة طفيفة وهي تجيبها بحياء لم تستطع إخفاءه :
بل جدك أكثر ....
لماذا ... ( لم تستطع الصبر حتى تكمل جدتها وكأنما تنتظر هذه الإجابة منذ أمد )
لأنه هو من كان يزرع ويجمع لنا التمر ويجلب لنا اللبن والبيض وطحين الخبر ..
اها .... ولكنك يا جدتي لم تقولي لي هل ما زلتي تحبينه حتى الآن ...!!
نعم يا حُبيبتي ... فهو أبو عيالي .... وأبو أباك... يا ُمنيّر ...!!
ولكن جدي لم يقل هذا عنك ...
جدك ..!!!!
نعم جدي ... لقد سألته فلم يقل انك أم عياله ولم يقل أنه يحبك ...
إذن ماذا قال لك .....؟؟
لقد قال أحب كحلها و رائحة عطرها و طبخها.... المجبوس ... والكبسة .. والجريش .. والقرصان .. ذالك ما ذكره لي ...
ضحكت جدتها هنا حتى برزت أخر أسنانها العريضة ...ثم قالت بضحكة هادئة لم تستطع إخفاءه :
هم الرجال هكذا ... دائما ما يهمهم الأكل ثم الأكل ...حتى أخر العمر .. وهذا جدك أولهم ..


حينها جلست بقرب جدتها وهي تتطلع إليها بعينين برئتين ... ولكن هل كان في قريتكم حب يا جدتي ...!!
نعم كل النساء يحببن أولادهن وأعمالهن المنزلية البسيطة والتي لا تكد تخلو من رائحة البخور والعطر و الهيل والزعفران ...
جدتي هل كان النساء يحببن الرجال ... !!
ضحكت الجدة حينئذ من سؤالها حتى قالت بنظرة مليئة بالحنان وتمنياً لها بالسعادة :
يا حُبيبتي .... النساء حينما يحببن لا يقلن ... بل يظهر حبهن في أفعالهن ...!!
وكيف ذلك يا جدتي .....!!
( لم يمضى ثانية على قولها حتى سمعت نداء أمها لها فهرعت إليها مسرعة وبعد لحظات عادت ومعها صينية خبر ساخن قد خبر للتو .... يفوح منه رائحة السمن والحبة السوداء ...قدمت لها الطبق مع جدها الذي اخذ يستمع إلى المذياع الخشبي القديم ( الراديو ) ... لاصق إذنه به مطربا لسماع أغنية قديمة لأم كلثوم ...... ومتمايلا بإيقاع كلمات أغنيتها الرقيقة ذات الصوت الأنثوي الباكي .... اقتربت " منيرة" من جدتها لتحاول استكمال حديثهما منذ زمن .... مردفة بهدوء :
جدتي ... أخبرني كيف النساء يحببن ...!! أنني أتسال هل كنّ يلبسن الحلي مثلاُ .. أم يقصصن شعورهنّ ..ويصبغنه بالألوان....
كلا يا حُبيبتي ... لم نكن نقص شعورنا مثل الآن .... بل كنّ نتنافس في تطويل الشعور وصبغه بالحناء ... فكن البنات يخطبن لطول شعورهن وسواد لونه ... وكن يصبغن أيديهن وشعورهن بالحناء دائما لعبق رائحته الزكية ... والمحببة في نفوسنا ... وكنّا نلبس الذهب الذي يكسونّا ..والذهب يا" منيرة " كلما كان كثيراً دل على غنّى وعّز أهلها ... أو أهل زوجها...
طالت فترة " منيرة" وهي تتسأل عن أحوال النساء في الماضي ... وكيف كان حبهن ... أسئلة ليست غريبة على الجدة ولكن الجدة تفهم من حفيدتها بأنها تسال وفي نفسها غاية إن تصل إلى هدفها .... لتجمع معلومات من جدتها بطريقة غير مباشره .... كيف تتقرب من حبيبها .... وماذا تفعل لتتكلم معه ...... أنها تحبه وتعشقه فمن يوصل رسالتها له
" منيرة " أعادة ذاكرة جدتها للوراء قبل أربعين سنة وتقول هل أحببتي جدي قبل الزواج وكيف تعرفني عليه ... وهل كانوا أهلك يعلمون أم كان حبكما في خفاء ... !!
حينها قاطع حديثهم صوت جهوري قاسي ... التفت " منيرة " نحوه بصمت ورغبة في معرفة الأمر منه ... اقتربت منه بود وبشقاوة طفولية محببة ... قائلة له بعذوبة :
أخبرني يا جديّ .. أخبرني ....كيف خطبت جدتي ...وكيف اخترتها من بين بنات القرية ........ وكيف علمت بأنها تحبك ..!!

هنا نظر إليها جدها ضاحكاً وهو يجيب لها بصوته الجهوري :
يا منيرة في زمننا لم نكن نعرف الحب إلا بعد الزواج ... كان الرجل يحب أهل بيته وأبناءه وقريته ... كان الحنين يجبرنا على العودة إلى القرية أن رحلنا زمنا عنه ... حتى الآن أرغب في أن أعود لها ....... وردد لها بصوته " إلا ليت الشباب يعود يوماً "
قالها وهو يهُم بالخروج من المجلس نحو الباب حاملاً معه مذياعه القديم الخشبي بطرازه التقليدي العتيق ..... نظرت نحو جدتها وأردفت لها بود ودلال :
جدتي .... أحكي لي كيف كن صباك ..... هل كان في حياتك حب غير جدي ... أعلم أنه ابن العم ولكن ربما كان لديكم شاب بارز سمعته تهوى البنات لسماع أسمه ....
يا حُبيبيتي ..... لم يكن لدينا من ذلك الحب قديماً .... بل كانت البنت تسمى لابن عمها منذ ولادتها ........ فتعيش على اسمه وتتربى لتؤهل أن تكون أم أبناءه ....... فلم يكن لدينا مجال لاختيار أو الحب على هواء العذارى .......
حسناً جدتي لا فائدة ..... من كل هذه الحديث .... أود ان أعرف شيء واحد هل علم جدي بأنك تحبينه قبل الزواج أم بعد زواجكما ........!!
لا قبل الزواج يا منيرة .... كنت أحبه ...
جدتي هل أعطيتيه ورقة وصفت فيها مشاعرك العاطفية وعن أحاسيسك تجاه ...!!
أعوذ بالله أهلي كان قطعوني لو قمت بهذه العمل ...
طيب جدتي أعطيتيه رقم تلفونك
كيف ..... !!! " قالتها بدهشة ثم أردفت لها بحزم " : ما كان في زمننا هاتف ....أو حتى مراسيل
جدتي سؤال أخير قالتها بعد أن رأت جدتها منهمكة في نخل الطحين " الدقيق " : هل ذهبتي معه إلى الحدائق العامة أو تصادفتما بالسوق أو في بيتكم ...
لا لا لا ممنوع ..... على البنات فعل ذلك ......... لم نكن نخرج ولا نتقابل لا مع أبن العم ولا غيره
جدتي ماذا فعلتي هل ظل الحب في نفسك مكبوتاً في ذاتك مقيد بالتقاليد البيئة .... فكيف تزوجتي بجدي هل رأكِ قبل الزواج أم بعد ...!!
كان في زمننا أمه أو أخته من تأتي لرؤية العروسة أولاً ثم الرجال يأتون لخطبتها من أهلها ...
ولكن بحكم أننا قربى فلم يكن الحاجة لرؤيتهم لي بل تم الخطبة في أسبوع وبعدها تم الأعداد لمراسيم الزواج بأقل من شهر ....
بدون أن يراك يا جدتي
يكفي أن أباه هو عمي وأمه هي خالتي وعمتي ....
جدتي هل كنت تسترقين النظر إليه من خلف الباب بدون أن يراك ....
يا حُبيبتي ...ممنوع هذا طبعاً ...... في زمننا كان هناك اعتقاد سائد بين نساء القرية ورجالها ..... هو أن تظل البنت بدون رؤية العريس وهو كذلك حتى لا يضرهما شيء ..... ولا يحدث رفض من قبلهما ...
شهقت حينها منيرة وهي تجيبها بتعجب .... :
جدتي هل كان جدي وسيماُ ..........
علت ضحكت مجلجلة حتى برزت أخر أسنانها العريضة وهي تقول :
ألا ترينه وسيماً حتى في كبره ...
ابتسمت منيرة برقة متأملة لمحة جميلة لمعت في أطراف عيني جدتها ...شعرت حينها أن الحب لم يكن مثلما هو الآن .......... الحب الذي كان في زمنه أقوى ... وعشاقه أكثر وفاءاً وإخلاصا ... ذلك الحب الحقيقي بتضحياته الكبيرة ........ والذي كانت تتسأل عنه ......... لأول مرة تشعر منيرة أن الحب يكمن في المعاملة وليس بالكلام فقط ....... الحب الذي يحفظ روح حبيبه إلى أخر رمق ......... هذا هو الحب ........ الحب الذي وجدته منيرة ولمحت ذلك في كلمات الحب الذي كان يرددها جدها مع أغنية أم كلثوم ....... ويترنم عشقا مع نسمات عطر جدتها الحنونة ..... وجدت الحب الذي طالما رأته في عيني أمها ومع ضحكات جدتها العامرة بالدفء والحنان والحب الخالد إلى الأبد.........
" .......... تمت ....."

سجاد أمي







أخذت أنفض المجلس بعد أن ذهب ضيوف والدي ... حملت معي السفرة وبعض كأسات العصير والتي صبغت بدهن اللحم في حوافها .... ما كان بوسعي غير إن أردد :
دائما الرجال مقرفين ....يتركون أوساخهم أينما كانوا...
وبينما أنا أسير إذ سقط أحدى الكأسات ...وطش ربع ما فيه على سجادة المدخل .... أدركت أنني وقعت في ورطة ... يا ويلي ... هذه ليست أي سجادة ... هذه سجادة والدتي الغالية ... ماذا فعلت قلت هذا مذعورة أن تراني ... فأسرعت نحو المطبخ أضع ما بيدي .. وخطفت بدون أن تنتبه والدتي منشفة كانت على طرف الطاولة ... أخذت أغسل وأنظف بقعة العصير التي طبعت لوناً زهرياً باهتاً على نقوشها ... أحسست أنني سأوجه مشكلة مستعصية لا قرار فيه .. لذا أسرعت نحوها أخبرها بطبيعتي الخائفة .... بكذبة صغيرة ......بعد أن نسجت منها قصة من عندي .... لحظات حتى انفجرت غضبا وأخذت تلعن حظه .... وهي تشتمه ... بقيت في ذهول... وأنا أحمد الله في نفسي أن أسعفتها من ضرب وشتم محقق ...وحينما عاد والدي بعد أن ودع ضيوفه الكرام عند الباب ...حتى أسرع بمناداة والدتي ... هرعت إليه بتعجب .... فلم يسبق أن فعل ذلك مسبقاً ... هرعت متسألة لما يحدث ....خشيت أن تخبره عما حصل لسجادتها الحبيبية إلى قلبها ...لذا أثرت الاختباء قرب الباب لأستمع ما يدور بينهما .... حينها علت علامات الدهشة على محياي ... أكان ما أسمعه حقيقة أم لا .... لقد أخبرها والدي بأن أحد ضيوفه قد أطلعه على ابن عمه الأعمى ... والذي يرغب بالزواج من بنات أحد الأسر وقد وقع اختياره بابنتنا لأبن عمه ... أخذت أمي تترد بقولها :
ولكن ... ولكن ...
فأجابها بفرح ... لم أعهده منه من قبل :
أنه يمتلك ثروة تقدر بـثلاثة ملايين ريال ... أتودين أن نبقى في عجزنا وفقرنا هذه ...نخشى إن ينتهي العام ولم نجمع مبلغ الإيجار ... أتودين أن ترين عجزي خلال الأعوام القادمة وتقاعدي عن العمل لنهاية هذا العام ... إن حالتنا سوف تزداد سوء عن كل يوم ... لو كان لدي والد لأعدت التفكير بالأمر.. ولكن ليس لدينا سوها ... هي ابنتنا الوحيدة ... لا تنسين أنها قد قاربت على سن الزواج ... ولم يتقدم احد من أبناء أخوالها أو من أبناء عمومتها ... أتعلمين لماذا .... لأنها لا تتمتع بالجمال كبنات خالاتها أو من بنات عماتها.
ما الذي تقوله ... ابنتك مازالت صغيرة ... وهي جميلة ولكن من سيقدرها ...؟؟.
لا تخشي شيئاً ... سنكون بخير أن تم زواجها منه ... لا تنسي أنه أعمى ... فلن يهتم بكونها جميلة أم بسيطة ....
دمعت عيناي لحظتها وأنا اسحب نفسي إلى المطبخ أردد في نفسي" ... أعمى ... أأتزوج بأعمى .... يا ويلي ...سأطعمه لأنه لا يرى ... سألبسه ..لا أنه لا يرى ... سأغسله لأنه لا يرى ...أذن كيف سنعيش معاً ... كيف ...سنعيش .... كيف..!!"
تناهى إلى مسمعي وقع أقدام تقترب فأخذت بحمل الطبق وغسله .. لأجد والدتي ترتبت على كتفاي قائلة بطيبة نابعة من القلب :
الله يعطيك العافية عزيزتي ... ويطيل بعمري كي أراك عروسة في بيت زوجك سعيدة ومرتاحة فيه ....
صمت ولم أرد بشيء ... مضى الليل على خير ما يرام ... وبعد أسبوع ... صحوت في الصبح باكراً ..... على ضرب أمي لسجادتها الحبيبة ....نزلت لأراها ...فإذا هي تبكي .... هتفت بخوف لم استطع كتمانه من أنفاسي :
أمي ...أمي ..ما بك .. ماذا حصل ... لما تبكين ..!!
نظرت إلي بألم ولم ترد بشيء ... زاد المخاوف في نفسي وأنا أهزها بيدي قائلة بخوف أكبر :
أمي ماذا حدث ...أ أبي بخير....!!!
فسحبت نفسها لتجلس بأقرب قطعة مرتفعة عن الأرض حتى قالت ...:
أباك بخير ....ولكنه تقاعد عن العمل ...وحالتنا صعبة فلم يجد أباك المبلغ الكافي لتسديد إيجار المنزل.... وأن لم يسدد فسيسجن ...!!
لا أعلم لماذا شعرت حينها بأنها مسرحية حبكتها والدتها بالاتفاق مع والدي ... لذا أجبتها بعد إن أبعدت عنها قليلاً :
أكل هذا من أجل إن أتزوج بالأعمى... !!
تطلعت لحظتها والدتي .. حتى نهضت نحوي قائلة ... :
ما لذي تقولينه ...أي أعمى هذا ..؟؟
نظرت في إزاء مرددة في نفسي " مسرحية جيدة يا أمي ..." فأجبتها بثقة :
أوهناك أعمى أخر ...!!!
لم أستوعب ما حصل سوى أنني حصلت على صفعة قوية على نصف وجهي ... شعرت حينها بألم بالغ ... وتخدر في خدي الأيسر ... نزلت دمعتي سريعا على غير عادتي ... أحسست بأنني أخطت بحقها كثيراً ... نظرت إليّ قائلة :
أو تعتقدين أننا سنزوجك من اجل المال ..
لقد تشاورنا في تلك الليلة حتى بزغ الفجر ... فكر أباك مليا ... ولكن قلبه لم يطاوعه إن يزوجك إياه ... مع انه واقع في مشكلة ...إلا انه رفض تزويجك إياه ... رغبة منه أن تتزوجي بشاب رائع يسعى لإسعادك حتى أخر لحظة في عمرك ... أولا تخجلين من التفكير بنا على هذا النحو ...!!
لم أكد استوعب لما حصل منذ قليل إلا بعدما دخلت أمي نحو حجرتها لتخرج مصوغاتها الذهبية بعلبة سوداء مخملية ... أخذت أتطلع عليها باستفهام وتعجب حتى أردفت لي :
حتى ذهبي لم يوافق على بيعه لحل وإنهاء مشكلتنا ... لقد أبقاه لي قائلا بحب كبير ... " هذه هدية زواجنا ولن أبيعه حتى لو اضطررت لدخول السجن .. فأنا الرجل مادمت على قيد الحياة ... سأعمل حتى لو كلفني الأمر صحتي ولكن لن أخذ شعرة منك ولا من أبنتك ....لن أخذ منكما شيء ... فجّل سعادتي هي سعادتكما ..
نظرت لها بعد إن دخلت حجرتها وأغلقت الباب بقوة ...لحظات صمت مضت وأنا لم أدرك ما الذي يحدث ... بقيت في حالة الشك والتصديق ... هل ما حصل هو مسرحية الواقع ...أم أنني مازلت احلم ... ما الذي يجري هنا ... ...أيسجن أبي حقاً ... أم أن أمي تحرك عواطفي لموافقة ...ولكنها لم تذكر عن الزواج ... هل أنا أحلم أم أن مسرحية سخرية القدر قد عرضت لي ....تأملت ساعة الجدار بعد أن ضرب جرسه الضعيف بألم وبصوت متقطع ....أنها الساعة الحادية والعشر صباحاً نظرت نحو نافذتي لأجد سجادة أمي معلقا يتطاير أطراف شعيراته برفق ... حرك ذلك في نفسي أحساس هادئ وراحة لا اعلم من أين أتت ....نهضت نحو سجادتها بعد إن أغمضت عيناي بلذة الإحساس أسحب كل مشاعري بأطراف أناملي لأتلمس خيوطه المتطايرة ... أمتزج خيوطه الرقيقة بأناملي النحيلة ... شعور غريب ... تملكني .... وخفة روح لأول مرة شعرت فيه يومها ..

" ....... تمت ....."

موت الحلم

on الثلاثاء، 15 سبتمبر 2009








كانت تسترق السمع إليهما بصمت ... ودموع عينها تسابقها في المشاركة الودية لحديثهما الخافي .... لم تعلم من منهما كانَ وَقْع كلامِه عليها أقوى ..... هوَ أم هيَ .... ولكنها أقرت شهقتها في رد قرارهما المفاجئ والصارم لها ... كتمت صرخة كادت أن تفلت من بين ضلعيها رفضا .... حينما ردد بكل حزم : الزواج هوَ الحل؛ ولن ندعها تحلم كالمراهقات الصغيرات .. قصص الأميرة النائمة .... أو قصة سندريلا ...... يجب أن تدرك أن كل هذه القصص لا تمت للواقع بصلة.أتعرف عزيزي ...... ؛ لا أعلم إن كنتُ غبية أم لا ...... ولكن إلا ترى الجدار الفاصل .... ؛ لا أعلم لِمَ كلما أراهُ أضحك..
) أشتط غضبا لقولها وأجابها في حدة لا تخلو من أنفاسه الغاضبة )
أنا أحدثكِ عنها وأنت تتحدثين عن الجدار .... ؛ فكري معي وانسي ذلكَ الجدار اللعين .
أردفت قائلة غير مبالية لثورة الغضب التي أعلت سطح عيناه :
يمكن بسهولة إزالته ... ، الجسور تفصل البلدان لتوضح لكل منا حدوده ؛ و شقيقتكِ يجب أن تتزوج لمن اخترناه لها لنزيل الحدود الوهمية وبصمة الفقر هذه على حياتنا الرتيبة ... دعنا نعيش ونحلم في الحياة القادمة .... حياتنا التي رهن حياتها ... ولكن حينما تتزوج شقيقتك بأبي فيصل ..فقط خلال سنة أما أن ننتقل إلى حياتها محفورة بالثراء ... أو أن تنقل هي حياتنا إلى مستودع أشبه بظلمة الفقر والسود ... لو وافقت شقيقتك ... نوير ... لو رضخت لأمرنا .....وتزوجت به .... وبعد سنة تلد له الابن الوحيد له .... بدلاً عن أبنه الذي توفى .. ... يا لله سوف تبتسم الحياة لنا بطولها وعرضها ... صدقيني لم يعد هنا مجال لأي قضاء وقدر ... لا مجال ... لا مجال أبداً ..تطلعت بعينها نحو الباب المجاور لها ... الباب الذي شهد أخر لحظات والدتها قبل رحيلها ... تقدمت ببطء نحو مقبض الباب ... تلمست بأناملها ... في رجفة ولوعة ... أدارته لتجد أن الصمت قد سكن حجرتها .. في ألم ... وأن الظلمة قد حاطت أشرعها على جدرانه الواهنة ... وأن كان هناك بصيص من الضوء الخافت الذي يسطع من نافذة حجرتها نحو ضريحها الخاوي ... تقدمت بضع خطوات نحو معالم سجادتها وسبحتها الكبيرة .. والتي كانت بجوار مصحفها الكبير ذات الخطوط العريضة ... تأملت موضع بساطها الهزيل ... دفنت وجهها الذي غسلتها دموعها الحارقة .....تلمست لأبعد أطراف سجادتها الوثيرة ... شدته بقوة نحو وجهها الرقيق لتدفن نصفه بشفتيها ... تعض فيه ويلات الظلم الذي سيزفها طيلة حياتها القادمة .... بكت بعمق .. كما لم تبكِ من قبل ...أدركت ان حياتها قد حانت ساعة الحلم الجميل منه ... للرحيل ... أدركت أن حياتنا على هامش المغريات سيقام قصره الكبير ... وتتلألأ أحلامها على قبور غطت أغبرته مئات السنين .... وستطرب لنحيب أنفاسها على مذاق الشهد اللاذع ... والذي لا زالَ يداعب خيالها الرقص مع فارس أحلامها على ضوء شموع تحتضر ..... وفارس غطى ظهر دماء الشوق لها ..... و قبلة منه على أناملها الناعمة ووعد بأمسية جديدة شاعرية في حياة أخرى .... وعالم ثانِ .....تصورت حياتها ... أنها انتهت إلى هذه الحد .... وهي ترأ أروع أوراقة بأحرف يداعب خيالها يتطاير ويتلاشى بصمت مخيف ... يصارع الموج النائم بالليل ...محلقاً أمام واقعها ... ليرتطم في أخر الأفق صخور الحياة القاسية ... بفقره ...وألمه ...مدت يدها بلا شعور .... تتلامس الاموجود بعالمها .... نظرت إلى يدها المحلقة بالهواء بخيبة أمل ... تأملت أناملها من وسط دموعها ... لتنظر بتركيز فارغ وضياع الإحساس منه ....... فلم يعد هناك حلم .... لتتشبث به .... ولا أمل لتتعلق فيه .... حطمت زجاج الباب الخارجي بقبضةِ يدها القاسية ..... وصرخت بأعلى صوتها ؛ لم تبالِ حينَ اهتزت الجدران ولا حينَ غادرت البيت ...... تتحدى ظلم الحياة ... وقسوة قلب محبيها ....لتقف وحيدة تصارع البرد القارص والعاصفة الترابية التي هبت في تلك الليلة ......وفي أخر أفق محيطها السوداوي .... وببصيص الأمل ...... شعرت بأن روحها المتعبة لامست أحلامها الراحلة ببطء ... فرفعت يديها إلى السماء وأطلقت صيحة فرحة مخنوقة .... ثمَ اختفت مخلفةً وراءها ماضٍ لم يحدث قط وحاضرا لا يماثله ظل مع السراب.
" ............... تمت ........."

مذكرات طالب كسول

on الخميس، 3 سبتمبر 2009


بسرعة فهمت أن لا علاقة لي بذاك الفتى الذي قرأت عنه في الفصل الجديد .. ذالك الفتى المهذب النشيط الذي يستيقظ باكرا ويغسل وجهه وأسنانه ويلبس قميصه وبنطاله بشكل أنيق ... ثم يغادر المدرسة بعد أن يتناول وجبة فطوره الخاصة من رقائق الذرة الهشة والتي تعده والدته الرقيقة ….هكذا ما وصلني همسا من أحد تلاميذ الفصل أو ربما خيل لي ذلك ...


وفي الصباح اليوم التالي ...أستيقظ وفراشي مبلل بسبب أمطار لا علاقة لها بالسماء ، حينما أفعلها أحاول طمس الحادث وذلك بقلب الفراش .... متخفيا بالذهاب إلى المدرسة... خشية أن تلاحقني نوبات الغضب من والدتي .. أو قرصه حارة من أطراف أناملها النحيلة على أذناي .. مضى اليوم دون أن تذكر والدتي لحادثة الصبح ...


وفي الليل سررت كثيراً بوجود أبناء خالتي " أحمد وهمام " أذكر أنني لعبت حتى وقعت من الإعياء ... لم نترك زاوية في البيت إلا ولعبنا فيه لعبة سبورة وقلم ...وفي المطبخ ...لعبة قذف الصحون البلاستيكية ... وبدورة المياه .. لعبة رش الماء ... أذكر يومها أبي لم يكتف بالشجار مع والدتي حتى أخر الليل .. ولو أنني دفنت رأسي تحت وسادتي .... إلا أن ضرب الباب من قبل والدي حينما خرج أحدث دوي هائل بين جداران منزلنا .. خشيت تأتي إلي أمي وأن تفجر قنبلة الغضب علي .. لذا أثرت النوم حقيقة على أن أمثل كما في كل مرة ..بعد أن سمعت وقع أقدامها تتوجه نحو حجرتي ..


وفي اليوم التالي ... نهضت من فراشي .. و قفزت نحو مرآتي لأكتشف معالم ليلة أمس ... لم يحدث شيئاً ... فتناهي إلى مسمعي صراخ والدتي :
فيصل فطورك جاهز .. سأذهب لأستحم الآن إياك لو تأخرت عن المدرسة ...


وما أن سمعت قولها حتى أسرعت نحو المطبخ وقلبي الصغير ينبض بقوة خشية أن أتأخر فعلا ... سحبت أقرب مقعد لأتناول فطوري الكبير المكون من كأس شاي وخبز وجبنه بيضاء مالحة مع حبيبات الزيتون ، تذكرت أني يوم أمس لم أحفظ جدول الضرب ،ومجرد هذا الاسم يوحي بالعصا أكثر ما يوحي لي بمادة الرياضيات ….


خرجت من المنزل في اتجاه المدرسة ....وكالعادة حينما لا أكون بمزاجي يكون نصيب أي قط ألتقية هو الرجم بالحجارة … أو الركل أحياناً ...لا أعلم لماذا كلما اقتربت من المدرسة ارتفع معدل نبض قلبي الصغير ، طالما تساءلت دوماً عن سر عدم وجود معلم طيب ...بالمدرسة .... ولما تيقنت أنه أمر مستحيل .... دعوت الله أن يموت المعلم أو أن يضرب زلزال مدرستنا ....وأثناء سيري وأنا اركل الحجر والعلب الفارغة بالطريق التقيت بهمام ابن خالتي زال خوفي ....حينها ... وسررت لتواجده ... وقبل أن أحدثه ، سألني :
هل حفظت جدول الضرب والقرآن هذه المرة ؟.

يا ويلي ..لم أعد أشك في أن هذا اليوم سيكون يومي حافل بامتياز .


وصلنا ولجنّا القاعة ثم دخل المعلم فعم الصمت .... لحظتها ... لم تعد لي رغبة في لعب دور المهرج والمضحك فقد بدا المعلم مخيفا كالشبح . ... يبدو أنه قد تشاجر مع زوجته يوم أمس كوالدي ....لمحت من بين يديه حزام بنطاله ... أدرك تماماً ما معنى هذا فمازال ظهري يشهد خط حتى هذه اللحظة .. سر بقربي وأنا أحاول أن أبدو واثقاً بعض الشيء .....ابتعد قليلاً ... و أخذ يمر بين الصفوف .... رائحة عطره وصوت حذائه يزيدان من رعبه.... فجأة أتى الحارس .... طالبا المعلم فذهب إليه ....وتحدثا أمام الباب .... يا الله .. تمنيت أن يكون أمر هاما من سعادة المدير ... ودعوت في قلبي أن يعتذر عن هذه الحصة ... ولكن ... علت ضحكه من خارج الفصل ... نعم ... رأيته يضحك ويربت على كتف الحارس .... يا الله .... مؤشر جيد ........ لاشك أن مزاجه جيد هذا اليوم .....لكن ما إن تودعا ،

حتى دخل بنظرات تشتعل فيها النيران ....

-هل أنجزتم واجباتكم ؟


أجبت مع الجميع بكلمة ليست بلا ولا بنعم : بـ.. بـ.. ن..عم ..


لاأخذنا نمر إلى السبورة تباعا لاستظهار ما حفظناه .... وفي كل مرة ينتهي فيها دور أحدهم أنظر إلى المعلم بثقة .....وكأنني حفظت كل شيء ومتشوق للإستظهار .لكن لعبتي الصغيرة لم تعمر طويلا ....فقد مر الوقت بسرعة فجاء دوري وسقط القناع .....


وقفت أمام السبورة وأخذت أنظر إلى الأرض وساقاي ترتجفان ...لم أكن أفكر في أي شيء آخر ..... غير عدد الضربات التي سأتلقاها وأنا أنظر برعب وخوف إلى يده التي غرسها في نص حزامه ... وأملت أن لا يمسكني من أذني ثانية فهما كبيرتان بما فيه الكفاية .... مددت يدي لعصا المعلم التي لا ترحم ... وأخذت أنظر إلى التلاميذ بين مستهزئ مني ومشفق علي..

لم أنسى وجبة العقاب في الأسبوع الماضي ... ولا زلت اشعر بيدي وكأنهما تنبضان حمرة وألماً ...... .لكني أحسست بسعادة كبيرة عندما علا رنين الجرس معلنا انتهاء الحصة ... لم أنسى ذلك اليوم كم كانت سعادتي غامرة ... حمدت الله كثيراً ... ولكنني يومها قد حصلت على عقاب آخر حتى أخر الليل ...

" .... تمت ...."

حديقة المنزل

on الخميس، 20 أغسطس 2009




كنت في سن المراهقة عندما خرجت نحو الحديقة المنزل .. لم تكن لدي أدنى معرفة لوجوده آنذاك . .. كنت أريد الترويج عن نفسي قليلا فقصدت أزهاري النرجسية التي زرعتها منذ فترة ليست قصيرة ..
سرت بهدوء يحيطني السكون والوداعة على محياي ... أردت أن أكون بسيطة مغايرة عن كل يوم لذا فقد كسرت روتين حياتي اليومي فارتديت قميصي القطني على البنطال الجينز .. أبدو طبيعية ... أرخيت عن شعري رباطه لبقية ينطلق بحرية كاملة .. كما كنت اشعر به ....
لدى رغبة كبيرة في أن أستمتع بحريتي المطلقة جلست بقرب إزهاري أخذت أتحسس رقتها وروعة جمالها ... بحنان قلبتها دون أن اشعر فسرى في أنفاسي عطرها السحري .. شعرت بنشوة غريبة فاحتضنتها وأنا أمررها بعذوبة على خدي الوردي ...
وبينما أنا هكذا منسجمة مع لحن الطبيعة وصفائها إذ به يقترب مني بهدوء ليهمس لي في ود طاغ:
تبدين رقيقة كنسمة الصباح ...
وما أن تطلعت عليه إذا هو خطيب أختي قد أتى لزيارتها اليوم ... أنصدمت شعرت بأحرج كبير لبساطة هيئتي وافتقاري لأبسط مقومات الأناقة والدلال .. تقوصت في مكاني وفي استحياء يلفه الرقة رحبت به :
أهلا فيصل ... كيف حالك .. عجيب أنني لا أرى أحد من أسرتك هنـُا ..؟؟!
ابتسم في خجل وتردد ثم هتف ببساطة :
لا داعي لقدومهم ها هنـا .. فأنا أردت رؤية أختك والتحدث إليها :
حينها كانت قد خرجت متطيبة بعد أن أخذت كامل زينتها إليه ... كدت أن أختنق خجلاً فأستاذنت منهما بالانسحاب في رقة واحترام ... وما أن أتت إليه حتى احتضنته في عذوبة لتسحبه إلى الأرجوحة الحديقة .. لكنني شعرت بنظراته المسترقة إليّ بين كل آونة ...
بقيت إلى جوار أحواضي الزهرية . أتأملها مليا ... ولكنني كنت سارحة بفكري إلى شيء لا وجود له ... شيء خفي .. لا اعرف ما هو ..؟؟
ولكنني رأيت هذا من بين عينيه .. أهو رسالة الجسد يبعثها إليّ أم ماذا ...؟؟؟
شيء في نظراته تفسر الكثير ربما مودة أو تعاطف ..... ربما حنان وأخوة ... ولكنني لا أعلم ما هو ..بالتحديد .. لذا سرت إلى داخل المنزل في شيء بلا مبالاة وأنا استمع لضحكاتها ونشوة سعادتها في وجوده أرجعت الأمر أنه إحراج فقط ...شعرت به لذا دلفت إلى حجرتي .. وأنا شبه غارقة بالوهم .. لا اعرف ماذا جرى ولكنني أخذت أحلم به وكأنه صورة لفارس أحلامي .. وشيئاً فشيئاً حتى سرحت إلى ما أبعد من الخيال ...لأرسم على ضباب الوهم مملكة حبيُ ومن صورة السراب فارس أحلامي .. ومن أغبرة خيالي كان قدومه إليّ فوق صهوة جواه الأبيض سريعاً يتطاير حصوات نبضي ورمال عشقي خلفه في هيام ... هكذا بدأ لي الحلم رومانسي رائع لأبقى أتتأمل حضوره وما أن يأتي حتى يحتضنني ويأخذني إلى عالم غامض بعيد عن هذا الكون ...ولكنني فجأة وجدت نفسي بين جداران أربعة تحوم حولي الصور وشيء من أغراضي الخاصة ...شعرت بالفراغ في داخلي حينها ... لما لا يحدق هذا معي ... كما يحدث هذا الآن ...مع أختي .. أخذت أفكر بالطريقة المناسبة لفعل هذا فما وجدت غير أبن عمي " سلطان " الشاب المتعلم المثقف الجامعي .. هو الأنسب لي ... صحيح أنه يكبرني بخمسة أعوام ولكنه الأقرب إلى سني ... بدأت أخطط بطريقة كي يأتي إلينا فأريه أجمل ما لدي ...ليتكرر زيارته إلينا كثيراً ... حتى يقع في حبي ويتوج نهاية حُبنا بزواج بعضينا ... يااااه.... كم كان حلماً سطحياً ... لفتاة في السابعة عشر من عمرها ... لم ترى الدنيا على حقيقتها .. ولم تتفحص لغة العيون على واقعها ... لذا بدأت ... أسرح بفكري طويلاً عليه ... حتى هاتفت عمي ذات يوم .. وطلبت منه المجيء مع أسرته دون أن يتخلف عن الحضور احد منهم ...لبى طلبي مسرورا ... وحينما أتى مع العائلة كلها تشوقت لرؤيته فلبست أجمل ما لدي ... لبست فستاني السماوي الممزوج بالبيض ...وسرحت شعري وأسدلته كستار الليل المظلم بالسواد .. وزينت أذاناي بأقراص حلق فضي اللون ليضفي لي سمة الرقة والنعومة الكاملة ... وحينما أتيت إليهم .. و بي شوق لنظر إليه وتساؤلات تدور في مخيلتي ( أن كان يعجب بي .. هل أعجبه بشكلي ولون شعري ... هل سيتّوق للنظر إليّ مرة أخرى لو رآني الآن بهذا الشكل المبهر ) وما أن اقتربت إلى أخته " نورة " حتى سألتها بعفوية : جيدا أن جميعكم قد حضر ... هذا يسعدني حقاً
فأجابت لي : صحيح ماعدا أخي سلطان فأنه لم يحضر بل فضل البقاء في المنزل ...
حينها أنصدمت وصرخت بها فجأة دون أننتبه لردة فعلي هذا وأنا أقول :
ماذا ....لم يأتي ....لماذا ...؟؟
بقيت فترة مندهشة من ردت فعلي ...فما من عادتي فعل هذا فتداركت ببراعة وخفة وأنا أحاول أخفاء توتري ... :
أقصد لما لم يأتي ... إنني أعدت لكم مفاجأة سارة ... ولا أريد أحد أن يتغيب عنها ..!!!
هتفت أخته نورة ببرودة أثار أعصابي قليل :
أي مفاجأة لم يخبرنا أبي بهذا ...!!
شعرت باختناق قليلاً من إجابتها ... فأردفت بعصبية :
لقد صنعت الطعام بنفسي وأريد منكم أن تتذوقونه .. كنت أريد رأيكم به جميعا ..!!
حينها انفجرت بي ضاحكة وهي تردد :
أمن أجل هذا دعوتنا أم ماذا ... على كل حال لا بأس يا عزيزتي .. سأقول رأيي فيه حينما أتذوقه ... كدت أن أختنق بقولها .. فصمت وحاولت أن أتمالك أعصابي أمامها ..كي لا تنفلت بقوة .. كدت أن أحطم أسنانها من شدة ضحكتها بي ...ولكنني كتمت غيضي لا توارى من أعينهم جميعا إلى المطبخ في شبة انهيار لفشل الخطة منذ بدايتها ... وما أن دلفت حتى فوجئت به .. خطيب أختي " فيصل " يسترق النظر إلى ما دخل القدور بقيت فجأة مشدوهة أحاول استيعاب ما أراه أكان موقفاً هزلياً منه أم مجرد فضول طاغ عليه .. نظرا إليّ فأحمر وجنتاه خجلاً ثم هتفت بإحراج كبير وهو يتصنع المرح :
عذراً ... لقد ألمتني المعدة من شدة الجوع فأرادت أن أذيقها شيئا يسيراً لحين موعد الغذاء وما أن انتهى حتى بقيت فترة استوعبت لما يجري أمامي فتبسم وهو ينظر بتوتر ملحوظ فأقترب أكثر ليهمس لي بعد إن ربت علي كتفي :
الواقع أن الطعام به رائحة مميزة مثلك تماماً وأن قال هذا حتى أخذت أختي من الخارج ... تناديه باحثة عنه فخرج مستأذنا برقة ولطف رقيق بقيت لحظات دون أن أعي ما لذي فعلته سحرتني كلماته وصوته العذب ... بل إن ملامسته لي جعلتني أسبح إلى أعمق المحيطات ... عالم من الغموض اعتراني حينما اقترب مني وكأنه يرسل لي المعنى الحقيقي وراء كلماته الإيقاعية ... عدت إلى الأطباق لأرى أكان ما قال عنه مطابقا أم مجرد مجاملة لطيفة منه .. لأجد شيئا يثير كل هذا الاهتمام ... لذا شككت في نفسي بأنني أختلف أوهام لا معنى لها ...وشيئا لا وجود بها ... قمت بتحضير الشاي وما أن انتهيت حتى قدمت إليهم الكل منبسط ومنشرح الصدر في مكانه خصوصاً عند التجمعات العائلية بذات تحدث نكهة خاصة لا تنسى فأخذت بتوزيع فناجين الشاي .عليهم .... وما أن اقتربت منه حتى وقف ليتناوله مني وهو يهمس بي بصوت رقيق :
حتى الشاي له مذاقه الخاص منك ...
سرت من جواره حتى دس لي شيئا غريبا شعرت به .. تصرفاته بدت مريبة لهذا اليوم وما أن سار اليوم كله على ما يرام حتى عدت إلى حجرتي ... تذكرت بوضوح حينها ماذا افعل ...أفرغت ما كان في جيبي وبالمفاجأة ...
صورته وبأسفلها رقم هاتفه ... ماذا يظن نفسه ..؟؟
أهو مجنون أم معتوه ... ما الذي يرمي إليه ...؟؟
ماذا يقصد بفعله هذا ...؟؟؟ لم يكن لدي شيئا لأقوم به سوى الاتصال عليه وبالفعل أدرت رقم الهاتف ليأتيني صوته العذب قد زاد عذوبة وكلماته الحانية قد زادت ولعاً ورقة ... ما كان ليثير مخاوفي هو إعجابه بي ...
لدرجة أنه واقعاً في حبي ... وهاهو يطلب مني أن إبداله ذات الشعور .. وتلك المحبة العشواء ... جننت كيف بي أفعل هذا ... زوج أختي المستقبل ... وحبيبها الحالي يرغب بي دونها ... عجيب أمر الرجال .. لذا فقد نهرته وصرخت به ... إلا يفعل هذا ثانية وإلا أعملت أختي بهذا ...ليأتي إجابته الشافية كخنجر قد سم نصله في قلبي ... بأنه سيتركها وسيفسخ الخطوبة منها ليتقدم إليّ خاطباً ... أتراه جن أم ماذا ... أحصل لعقله ارتجالا أم بدون إن استوعب لما يجري بكل قهر وألم " مستحيل ... مستحيل " ما ذنب أختي بعد كل هذا ..؟؟
أتهيم به ليل نهار وتحلم بموعد الزفاف لتطير معه إلى عالم يملئه الحنان والحب وأروع لحظات السنين ... كلا ...لا يمكن ... لن أفعل هذا بها ... ولا يمكنني خيانتها ... بحبيبها ... الوحيد الذي زرع في قلبها وردة الأمل والمحبة ...والعطاء ... والنقاء ... لتحمل ثمرة حبها ... كل ليلة .. فتسقيها من دموع العشق والهيام .... كلا ... أنها خيانة كبرى أن أقابل تلك الثقة بهذا العمل ..مستحيل ...أنه قتل لحياة إنسانة عاشت أروع لحظات الحب والغرام لن أسرق قلب حبيبها لأمتلكه طول عمري .. لن أبني عش الزوجية فوق أشلاء انهيارها ودموع حزنها ...لن أربي أبنائي على أروع المعاني بينما بدأت حياتي با سوء ما ينعت عليّ كلا ... أنه جور ... وظلم ... وحرمان لسعادة أختي ... أغلقت الهاتف في وجه فأجده يعيد الاتصال مراراً بي لكنني عشت لحظات صراع مستميت مابين الحق والباطل والحب والحياة .. والألم والفراق .. وما أن أتي الصباح حتى سمعت عويل أختي ونحيبها .. أدركت ما قام به .. كان أفضع أحساس اعتراني طوال حياتي .. شعور بالحنق يعتصرني كلما تذكرته مزقت صورته التي تخفي أقبح المعاني التي ترتفع الكلمات عن وصفها له ...بل تتلاشى الأحرف عن ذكر اسمه ... شتت كياني ...ألهمني شعور بالذنب القاتل لتعاسة حياتها منذ البداية ما ذنبها ... القلب وما يهوى ... فعلاّ هاهي تبكي بحرقة فراقه .. وتناشد حلمها الضائع بعد أن أستغرق في بناء ليال عديدة .. أدركت حجم معاناتها .. وألمها .. ولكنني كنت السبب الرئيسي لطعن قلبها النقي ..المنزل كئيب ... صامت ... سكون يسري في الأرجاء ليخيمه الحزن والعذاب ...وصوت نحيبها بعلو حنيناً ويرحل حينها كلما ودعت أخر صوره العالقة في عقلها ..لم أجد شيئا لأصنع لها !!
حسرة تكاد تفطر قلبي حزنا بها ... خرجت إلى حديقة المنزل بآلامي وعذاباتي .. مسكينة لا تعلم ما سبب رحيله عنها ... وقفت أمام أحواض أزهاري وكأنها تشاركني في عزائي وشعوري بالذنب تجاه أختي .. لأسقيها من دموعي ما تتحدث عما في أنفاسي الملتاعة ..فأبقى طويلاً ... حتى بللتها من دموعي ما يكفي لأن تقوم هي بذرف دموعها ..
" ............. تمت ..........."


أنت لي وحدي

on الجمعة، 14 أغسطس 2009



( 1 )

كانت أول صورة في حياتي أتأملها بعمق ... أول صورة نسجت بها أروع أحلامي .. .بل قد شيدت في خيالي أجمل قصر من العشق لم يكن له من الوجود من شيء ... أبحرت في عينيه المحيط كله .. همست في وضح النهار ولعي به .. سهرت الليالي أترقب قدومه على بساطه السحري .. ليحملني بعيداَ عن ارض الواقع ليثير حولنا طيف من الخيال الساحر ... هكذا كانت نظرتي التأملية في تقاسيم وجه الصافي ... بهرني وسامته الفائقة ... وهيبته الواضحة .. تحريت قدومه إليَ ... انتظرته طويلاً ... كي يأتي ... بعثت له المراسيل والأشعار .. حتى وصل بي الأمر إلى رجائي الحار إليه ... ولكن لم يحدث شيئاً ... لم يحرك ساكناً ... كنت اعتقده ساذجاً ... أو غير مبالياً ...لما تحفه المجلة من مئات المعجبين ... لاسيما الفتيات الجميلات ... كان دائما من يسترسل في شعره العذب وصف المرأة .. وجمالها البدوي ... يتغزل بكينونتها الأنثوية ... يداعب في ألفاظه مشاعرها المرهفة .. ويدغدغ بكلماته أحاسيسها بدلال ... في بادئ الأمر اعتقدته رجل متزوج بأجمل امرأة في هذا الوجود ؟؟؟ لا استحالة تطابق أشعاره في وصف امرأة كاملة ... بشخصية واحدة ... ربما كانت هذه تتربع في عرش خياله الخاص ... إلا لما لم يسمها في قصائده الغزلية ... وذات يوم اكتشفت بالصدفة بأنه لم يتزوج بعد ... وذلك بعد أن وجدت إعلان في الجريدة خبر وفاة أخيه الأكبر بحادث مروع ... لم تصدق عيناي ما قرأته ... بالفعل لقد تأثرت .. أقشعر جسدي حينها ..أتراه متألماً بعمق ... لينسى المرآة وعالمها الواسع ليلجأ إلى رثاء أخيه وحبيب قلبه وشريك طفولته .. منذ القدم .. هذا ما اعتقدته .. بالفعل أدرت قرص الهاتف المدون في صفحة الجريدة .. أخذت انتظر وأنا أسمع رنين الهاتف مرة تلو الأخرى ..ولكنه لم يجيب ...شعرت بالإحراج إذ كيف به وبهذه الحالة سيجيب ...لا جرم إنه الآن يعانق الذكريات السابقة وهو يحتضن صورته البريئة كدت أغلق سماعة الهاتف ولكن فجأة فُتُـح الخط أمامي ليأتيني صوته مبحوحا متحرجرشاً لم أنكر حينها بأنني ذرفت دموعي بلا وعي يذكر .. واسيته وقدمت له التعازي .. وبي قبضة ألم في صدري شكرني بأدب بالغ مع دعواته لي بألا يُرى احد مكروهاً .. أغلقت الهاتف بعد أن شعرت بيدي ترتجفان بقوة ... أحمرت وجنتاي بحدة .. سرت قشعريرة حادة في أطرافي لأنتفض بقوة ... استرخيت قليلاً ... أخذت أعيد ما دار بيننا من حديث وإن لم يكن ذا أهمية ... بقيت فترة تتضارب بها الصور والأحداث أمامي .. أتراه سينعزل .. أم سيخرج لنا بلون أخر بعد هذه الصدمة ... ؟؟
أتراه سينسى ما حل به من فقدان أخيه وأعز صديق له منذ طفولته ليعود كسابق عهده .. أم سيبقى في عزلة يصارع بها مع نفسه أمواج الحياة والذكريات الأليمة ...؟؟
( 2)

لم يمضي على وفاة أخيه أسبوعاً كاملاً إلا وقد عاد بقصيدتين جميلتين قد وضعت في صفحة الأدب من المجلة .. أكان هو حقيقة أم لا ..؟؟ أهذا ما كتبه حين وفاة أخيه أم تراه من أول قصائده القديمة التي سعى في نشرها منذ سنتين .. ربما .. ولكن حسب معلوماتي المتواضعة لم أقراء منها ولو بيتاً كان منذ القدم ..ربما كانت حديثة .. أو ربما كتبها قبل وفاة أخيه بأيام .. مما جعله يؤجل نشرها فترة قصيرة ... هكذا ما توصل به عقلي من تفسير غامض ... أخذت بقراءة القصيدة الأولى .. لقد كانت في الألم والعذاب من الحب وأصحابه ... يجسد معاناة الفراق واللوعة في أصدق صورة .. أما في القصيدة الثانية والتي كانت محور حديثة في وصف المرأة وإعجابه بها .. وقد تخيلها كالحور العين تحادثه في المنام ... لدرجة أنه قد ذكر رغبته في البقاء نائماً طوال الوقت كي ينعم بأجمل ما خلق ربي في هذا الكون ... حينها لم أستطع أخفاء إعجابي الشديد لهذا البيت بذات فأدرت قرص الهاتف سريعاً ..ليأتيني رده الأسرع .. كأنما كان ينتظر اتصالي..!!
أو يبدو أننا على أتفاق مسبق أو على ميعاد محدد ... ترددت برهة حتى هتفت بصوت خافت أمتزج بين دلالي ونعومة أحلامي ...
القصيدة رائعة وصياغتها أروع ..
أتاني رده في نشوة ولطف بالغ عن سروره وتعبيره بفرحه وأفصح عن إعجابي في هذا في تميزي بالذوق ..والطابع الخاص الذي أكنه في داخلي مضت نصف ساعة ونحن نتجاذب أطراف الحديث علمت من خلالها جزء من حياته .. إنه موظف بسيط في أحدى الدوائر الحكومية .. يتسلى بفراغه ... ويطلق ما في نفسه العنان لتجود له أروع ما وهبت له شاعريته الفذة .. كان يهمس لي بين الحين والأخر رغبته في الارتباط بامرأة تحمل صفات ما احتوت به قصيدته ..كان يردد في بحثه المتواصل عن أمرآة تفهمه وتعيش في عالمه السحري الشاعري ... لكنه حينها ردد بأسى أن لا توجد أمرآة تحمل ولو ربع من تلك الصفات والمحاسن .. لتبقى شيئاً في نفسه يحاول طيها مع الزمن ... لا ادري لما راقت كلماته في نفسي ولا اعلم لما بقيت صامته استمع في اهتمام لما يهمس لي ...شيئا ً في نفسي قد تحرك ... كان كالنبض يخفق بشدة ... خصوصاً وأن سألني عن مقدرتي في كتابة القصائد الشاعرية والتعبير عن الحب بشكل أفضل منه .... لا أعرف حينها ما الذي قلت له بالتحديد ولكنني سمعت صدى ضحكته العفوية في سماعة الهاتف فعاد ليسألني ..:
" مَن من ِ الشعراء تقرأين لهم أو تستمتعين بأبياتهم .."
لم أدرك إلا وقد همست له شفتاي في رقه وعذوبة متناهية :
" أنت ... ولا أحد سواك ... "
حينها أبدى تعجبه في بادئ الأمر ثم عاد وسألني السبب في ذلك ... ولكنني لم أجبه ... ؟!
يبدو من صمتي ولو برهة كفيلاً لأعلمه ما أرمي إليه ... " إنه الحب "
الحب الذي جني لي العذاب ليل نهار ... بقيت في سهاد وإرهاق كبير ... حينها اعتذرت منه وبلا مقدمات حتى أغلقت سماعة الهاتف كنت على وشك الانهيار ... ترى ما الذي فعلته ... ترى ما كان حديثنا صائباً أم فيه نوعا من المغالطة .. أكان يجدر بي كفتاة التحدث إلى رجل شاعر لعبته الكلمات ..و لا أعرف عنه سوى ما نشر بالمجلات في كل عدد عن قصائده الغزلية والرومانسية ... أكان عملي هذا هو الصواب .. أم أنها بداية لمشكلة لا حل لها .. ترى ماذا عليّ أن أصنع ...إنه يعلم عني كل شيء .. " فتاة في الثانية والعشرين .. مراهقة .. والأخيرة من بين أخواتها وإخوانها ... تدرس في الجامعة في تخصص علوم الكيمياء الحيوية .. تذهب برفقة السائق إلى الجامعة ومن ثم تقضي بقية الوقت مع صديقاتها في أحدى الأسواق أو لأحدى المطاعم الراقية ... "
والدي لا يعلم هذا .. بل الأسوء إنه يعلم أنني في أي مرحلة ادرس بها .. ربما لكبره وعجزه أقعده عن المتابعة بي .. وربما لثقته الزائدة ترك لي مساحة خاصة من الحرية ... حرية التصرف المطلقة كما أراها ... دون رادع أو عقاب مسبق ... أنني بالأحرى لا أراه الإ إلماما .. ما كان في المناسبات أو الأعياد وذلك لانشغاله في التجارة التي تعود إليه بثروة طائلة .. لم أستطع في تلك الليلة النوم بسلام .. ظللت أفكر بما قد يحدث لي .. وما قمت به ...!!
أكان صواباً أم خطأ .؟؟
حتى اهتديت في النهاية بعد ما سمعت صوت العقل بالإ أعاود الاتصال والحديث معه ... شعرت بالسخف و الإهانة ... ربما انتابني شعور بأنه يحتقرني أو قد يتخذ مني ألعوبة الحياة ... حينها قطعت عهد في نفسي على ذلك ..
( 3 )

لم يمضي أسبوع أخر حتى وجدت نفسي تتوق لسماع صوته المرن .. بما فيها من سحر ودلال .. وبالفعل ..أدرت قرص الهاتف مرة أخرى . بعد أن أغلقت صوت العقل بقوة .. لأبحر في نبض إحساسي المرهف .. مرت دقيقة كاملة لم يجبني حينها ... ربما في شغل عني .. أمضيت الوقت في ترتيب حجرتي أخذت اجمع أشعاره وصوره المنشورة في دفتري الخاص ...وحسب ترتيبها الزمني .. تأملت صورته ..يبدو لي إنه لم يتجاوز الثلاثين عاماً .. ولكنه وسيم .. ذو هيبة مميزة في عينيه ... كما انه ظهوره مميز عن كل أقرانه من الشعراء في الساحة الشعرية ... دائما ما يحف جريدته بمجموعة من القصائد المسترسلة من أشجانه الرقراقة .. كل ما فيه بديع .. كل ما فيه رائع ... بروعة لألي البحر في محاره الحجري ..وبلمعان نجوم السماء في هديانه .. مضت ثلاثة ساعات على اتصالي الأول .. أعدت الاتصال به .. فاعتذر بأدب حجم عن خروجه من المنزل ليحل إشكالية برقم هاتفه النقال حيثما كان يحمله .. وحيثما شاء أجده يجيب لي .. كم سعدت يومها .. وكم طرت فرحاً ..لقد خصني من بين جموع المعجبين برقمه الخاص ..نادراً ما يتم إعطاءه لأحد ما ... وغالباً ما تكون لأقرب المقربين إليه ..أحسست بأن هناك شيء يلمع في الأفق .. شيئاً ينتابني بالحظ الأوفر بالمستقبل ... ربما أعُجب بي .. ربما وجد فيني الشيء الذي طالما حلم به ... لا اعلم ما هو .. ولكنني أيقنت إنه واقعاً في طرف شبكة العشق .. ربما هو قريب إلي ..نقطة المركز حتى يفصح لي عنه حبه ومكنوناته بي .. كم كنت ساذجة ... بلهاء .. ما كان يريده الرجل من المرآة إلا ليتلاعب بها ... ربما ليجرب حظه العاثر بي ... ربما وجدني في غنى عن الحذر .. ليقف عند خطوطه الحمراء .. وبدأت المكالمات تتوالى يوماً بعد يوماً .. حتى أصبحت بشكل ملفت في اليوم ... الواحد حتى تميزت مكالماتنا في منتصف الليل ... يلقي بي .. أشعاره التي لم ينشرها بعد ... والتي للتو كتبها من أجلي فقط .. ثم يستأذن في نشرها إلى الأسبوع القادم تخيلت أنني ملكت العالم بحبه لي ... وتمكنت من زمام الحياة معه .. حتى إذا ما جاء اليوم الذي وجدت به قصائده التي تتطاير منها لهيب الحب من حرارة كلمات حتى سكنت مكاني وأذوب حلماً في نفسي يومها لم أستمع إلى قول صديقتي ( رانيا ) بأن ما يقوله ويتفوه به لا يعد خاص بي ..لأنه بحديثه المبهم عن تلك المرأة .... لا يمكن أن يشير أو يقصده بي إطلاقا ولو كانت تحت كل كلمات مغزى معين و يومها ... لم تستمر صداقتنا التي دامت قرابة خمس سنوات والتي ذهبت في أدراج رياح الذكريات ..
( 4 )

في ذلك اليوم بالتحديد من السنة الأخيرة قبل تخرجي من الجامعة ... وبعد الاستعدادات المسبقة لبناء عش زوجي متكامل الأركان أفاجأ بخبر قران عقده مع ابنة عمه .. أكان ما رايته صابئاً ...أكان هو حقيقاً أم لمجرد تشابه الأسماء ..... يومها لم أصمت دقيقة إلا وأنا اتصل به كل دقيقة .... لم يكن ليجبني حينها .. ذرفت دموعي طويلا ً... أكانت هذه قصة حب تولدت وعاشت في خيالاتي .. لتبقى وحيدة يتيمة المشاعر ... أم بقيت نموذجاً له يقلبني كيفما يشاء ..ووقت ما يحلو له ... أم أنني بقيت في عينه المرآة الساذجة التافهة التي تبوح له عما في خاطرها بدون أي روابط تربطنا سوى الحديث عن بعضينا .. ولا أساس .. ما كانت تنتظره امرأة هائمة وسط أسطر كلمات وبين أشطر أبياته ... ما كان ينتظره مني بعد أن أخلصت له وفاء ومحبة وهياماً .. أكل هذا قد ذهب مع أدراج الرياح الباردة ... أبكل هذا المشاعر المتوقعة للانسجام والتفاهم والحب الأبدي والروحاني الذي أكنه في دواخل القلب .. لما يدفن في لحظة .. ولم يكتمل ولادته بعد ... أيرحل عني المحب الميتم بقصائده لامرأة أخرى ...
.. وأنا ... وأنا ماذا ...؟؟
ما كنت افعل هذا لولا جنون حبي له ..... ما كنت أصل لهذه المرحلة لولا عشقي الأعمى به ...أكان ما حصل بيننا تتمزق في شغوف وسط أوراق الخريف المتساقطة ... أتراه مازحاً ... أم يرى بي صورة المرأة بأقبح ألوانها .. أكنت أمُثل له الجانب الوضيع والمشين للمرأة ... وأن أبنه عمه التي اقترن بها هي الملاك الطاهر .. أم للتقاليد وعادات المجتمع هو ما قيدت حبه ليفني وسط نظام العائلة المحافظة ... والمترابطة ... كيف .. أهذا لأنه رجل مرهف المشاعر متدفق الخيال أم أنها سمة يتفق بها كل الرجال ... أتراني أخطأت .. أم أنني قسوت على نفسي .. أم فرض المجتمع قيود على العشاق والمحبين ... كيف حصل هذا .. ولما استرخصت حبي له ... أم من اجل أنني عشقت كلماته المتعانقة بأبيات الحب الخالد ... أم لأنني فتحت له أشرعة المحبة دون أن أنتظر أن يطرق الباب بنفسه ... لماذا أبقى أنا حبيسة كلمات في أبياته ... أعانق عذاب الحب بقصائده ... ولكن السؤال هنُا ... والذي قهر قلبي وحبس أوتاري وقطع حبال عشقي ألما ً ..وسط تسأولاتي أرددها في صدى أنفاسي المصدومة ...
أكنت حقا هي المقصودة في قصائده أم كانت من تخالفني هي التي حظيت بمقصوده ...؟؟؟


" ......... تمت ........ "

الحب الصغير

on الاثنين، 3 أغسطس 2009




أخذ يطرق باب حجرتها بقوة .. .. مضت لحظات ... لا صوت فيه ... .. لم يسمع أنينها المعتاد .. هدوء غريب يسكن غرفتها .. أصر أن تفتح له الباب ..أخذ يطرق بشدة ... لم تجيبه .. أحس برعشة سرت في عروقه ..... أخذت المخاوف تنتابه حينما طال وقوفه ولم تجيبه ...ردد بصمت " لا بالتأكيد هناك شيء يحصل بالداخل ..." طرق حينها الباب بقوة أكثر .. .. لم تصدر صوتاً .... فقرر كسره .. وجدها هناك ..كالأميرة ... بل .. كالملاك .. نائمة ؟ أقترب منها ببطء ... يتأمل نومها كالطفل البريء ...وضع يداه على جبينها في خفة وهدوء .. أحست به .... فتحت عينيها برقة .. وبصوت خافت قالت : عبد الله ... ؟ ماذا تريد... ؟؟ ... دعني أنــام بسلام ... ! .. ما إن سمع هذه الكلمات إلا وسرت تلك الرعشة في عروقه مرة أخرى ..أخذ نبض قلبه يضرب بشدة ... حملها وأسرع بنقلها إلى سيارته .. وما أن أدر محركها حتى اتصل بأخيه فيصل ... أتى له الصوت من مكبر الصوت ... قائلاً : فيصل أسرع تعال إلى أقرب مستشفى .. أتاه صوته متقطعا بعض الشيء .. : مــاذا ...ما الذي حصل .. هل حصل مكروه .. ما بك لا تجيب ...عبد الله ...عبد الله ..قطع اتصاله بعد أن سمع همساتها وهي تردد : سوف أموت ... دعوني أموت ...بسلام .. دعوني ...!! بعد ساعتين كان هناك يقف في رجاء .. وهو ينتظر الطبيب ... من حجرة الطوارئ .... أتى فيصل مسرعاً إليه سألاً إياه ... : عبد الله ...ما الذي يحصل ... من هنا ... ؟؟؟ أنها أختك ... أختك الوحيدة والصغرى ... " باسمة " " باسمة " ........ ما بها ... هل هي بخير .. ما الذي حصل لها ..؟؟ قالها بخوف وهو يمسك بقميصه بشدة فأبعده بيديه قائلا .. : لا أعلم ..لقد كانت في حجرتها ولم تخرج كمثل عادتها .. خشيت أن يكون مكروه قد حصل لها .. فلما أتيت وجدتها نائمة ولونها قارب على الصفار ... كانت أطرافها باردة .. وهي في حالة هذيان ... لا أعلم ما الذي حصل لها ... ...؟؟ جلسا في أقرب مقعد قريب لهما ... خرج الطبيب بعد ساعة من الانتظار .. نظر إليهما بعين غاضبة .. أطرق فيصل رأسه في أسى .. وتطلع عبد الله في وجه بانتظار ما سيخبرهم عنها .. لا يعلم لماذا شعر فجأة بالخوف الكبير .... خاف أن يخسرها... ! فسأله الطبيب .. : ما صلة قرابتك بالمريضة " باسمة " ... ؟ .. رد عبد الله: أختي .. قال الطبيب: أختك يا أخ عبد الله مصابة بانخفاض حاد في ضغط الدم .. كما أنها تعاني أيضا من فقر الدم ... ! أظنها لم تأكل شيئاً ليومين ...!! لم يستمع ما قاله الطبيب بعد ذلك ...انحدرت دمعة ساخنة من مقلتيه .. كيف حدث هذا ..؟؟ كيف سمح لنفسه أن يهمل هذه الوردة التي كان منزلهم يزهو بها ... ! بضحكاتها وبسماتها .. بخفة دمها .. وطيب قلبها ...كانت تملأ البيت فرحا .. وحركة .. ..لام نفسه بشدة .. كان عليه أن يفهمها .. هو بالذات ... من بين الكل كان هو الوحيد أقربهم إلى قلبها .. .. تذكر كل الأيام التي ركضت إليه ودموعها على خدها .. تشتكي من هذه ومن ذاك وكان هو من يمسح دمعتها ..ويضمها في صدره بحنان كبير ... تسأل في نفسه في لوم وقهر .. : لماذا تركها تأن لوحدها اليوم . ... ؟!! لقد كانت بحاجة إليّ .. اليوم كانت ستذبل وردتي الجميلة .. ببسمتها الساحرة ... اليوم كنت سأفتقد روح أبي وأمي .. من بعدها ... تناهى إلى مسمعه صوت الطبيب الذي اخذ يطمأن أخيه فيصل قائلاً : كلا ... الحمد لله ... لقد تجاوزت الآن مرحلة الخطر .. هي الآن أفضل من قبل ...ولكن هل كان هناك من أحد يرعاها في غيابكما ... طأطأ فيصل رأسه في ألم وهو يجيبه : كلا .. على العموم .. سنستبقيها هنا ليومين أو ثلاث حتى تستقر حالتها .. ورجاءً إن كان هناك أي موضوع قد يؤثر على نفسيتها ... علينا الحذر منه فحالتها لا تسمح بمزيد من المضاعفات ! شكرا الطبيب .. ودخلا على أختهما .. نظرت إليهما بعيون واهنة .. قد أغرقت من مرارة الدمع والحزن ... ولكنها أمطت ابتسامة صفراء وهي تمسك يداه بضعف .. عبد الله ..... شكراً لإنقاذي ..!! فأشاح بوجه عنها بألم ..لم يستطع كتمانه والبوح به .. أدركت في نفسها ما يشعر به ... فهمست له بود : لم أرك مذعوراً في حياتك مثلما أرك الآن ... لم أنسى تلك اللحظة التي طلبت منك أن تتركني أرحل بسلام .. !! لم أنسى نظرتك تلك .. لقد شعرت بك .. وبخوفك عليَ عبد الله ...أنت أخي ... وصديقي .. وأبي ...!! نزلت دمعته حينما ردت بكلمتها تلك .. ودفن رأسه بالقرب من وسادتها وهو يخفي ألم وخوفه وحبه الكبير لها .. تطلعت عليه بعينيها المتعبتين وهي ترسم ابتسامة عذبة على شفتيها ردت روح أخيها فيصل بفرح ..وهو يقبل جبينها ... هامساً لها بود .. : باسمة ارتاحي الآن .. لقد تعبتي كثيراً لليلة أمس .... كادت أن تجيبه ولكنه امسك بيديها ووضع أصبعه في شفتيها قائلا بهدوء وحب : ليس الآن ... ليس الآن .. حينما تخرجين سوف نطلب منك شرح وافي عما حصل لاحقاً ..ولكن ليس الآن حبيبتي ... نامت باسمة بهدوء .. وابتسامتها العذبة لا تكاد تفارقها ..فأستغرق عبد الله في تأمل أخته الصغيرة إلى أن نال منه النوم أيضاً مع أخيه فيصل الذي نام بشكل مضحك على كرسي قد ضاق على جسده .. وفي اليوم التالي ... زقزقت عصافير الصبح كعادتها طرباً ونشوة .... ودغدغت أشعة الشمس وجه باسمة .. فتحت عينيها فوجدت أخويها بالقرب منها عبد الله مطرق الرأس .. نائماً .. وفيصل نائماً باتجاهه المعاكس ... .. حاولت أن تنهض بهدوء فأيقظت عبد الله .. فتح عينيه بصعوبة .. بعد ثوان من الوجوم والحيرة والتعب تذكر أحداث ليلة البارحة. فسألها وهو يسحب ستار النافذة ليسطع سحر الصبح على وجه أخيه فيصل ..الذي نهض بعد أن حرقته أشعة الشمس الصغيرة : كيف حالك اليوم يا أختي الغالية؟ أشعر بتحسن كبير .. و بنفسية مرتاحة جداً .. طبعاً أيتها الشقية .. أخفتنا يوم أمس .. كدنا أن نجن .. فقاطعه أخيها فيصل والنعاس يغالب أنفاسه : .... لما أضربتي عن الطعام ليومين .أكان الفلفل قليلاً.. أم الملح لا يكفي ....؟ ابتسمت بعذوبة لخفة دم أخيها ومرحه الدائم ..ولكنها أطرقت رأسها خجلاً ... بعد أن نظرت إلى عيني أخيها عبد الله الذي يتأملها بعطف وحنان متزايد .. تطلعت بعيناها اللوزتين كأنها تريد أن ترسل من خلالهما أسفها الشديد .. أمسك عبد الله بيدي باسمة .. وبكل حنان .. سألها: ماذا حصل لك ؟؟ لماذا لم نعد نشعر بابتساماتك المشرقة كثيراً وروحك المرحة ؟؟!! أدركت أن الوقت قد حان لتفصح عن ما تشعر به لأخيها .. .. صديقها وأخيها ... وكاتم أسرارها .. وقائدها .. أجابت وهي تحاول أن تخفي من حروفها خجل المشاعر : سأخبرك عن ما حل بي .. ولكن أرجوكما عداني ألا تحرماني من سعادتي .. ماذا يا باسمة أخبرينا نحن أخويك .. لا تطلبا مني أن أقوم بما يصعب علي تحمله ..؟؟ رد عبد الله بتلقائية : طبعاً أعدك يا أختي الغالية .. وبقيت علامة استفهام كبيرة في وجه أخيه فيصل ..!! رددت بخوف لم تستطع إخفاءه من عيناها : أتعدني ... بأعز ما تملك .. تطلع إليهما فيصل بتعجب وهو يقول : ماذا اخبرينا .. فأردفت قائلة وأنت يا فيصل أتعدني . .. أعدك ... أعدك ولكن بماذا ..؟؟ عبد الله ..فيصل .. أنا أحب .... ! وقبل أن تقول أي شيء رجاءً اسمعني للنهاية .. تطلع فيصل إلى أخيه عبد الله الذي بدأ هادئ بعض الشيء ..فتطلع لها مستفهما بما يحدث ..فأكملت لهما قائلة وهي تتطلع عبر نافذتها الصغيرة بود وشيء من اللوعة : شاب طيب خلوق كتب الله له أن يولد في عائلة فقيرة جداَ ..أباه سجن لكثرة الديون المتراكمة عليه .. وأمه تعمل خادمة في أحدى المدارس الحكومية ولكنه رائع .. وان كانت ظروفه قاسية عليه .. لم أكون قاسية عليه أنا أيضا بقلبي وحبي له .....أعلم .. أن جميع قوانين مجتمعنا لن ترضى بالمساواة ..و أعلم أنكما ستحاربني إن أنا فكرت ولو للحظة الارتباط به .. ولكني أحبه .. وسأظل أحبه حتى لو رحلت عنكما .. .. بدأ الانزعاج على وجه أخيها عبد الله الذي حاول أن يخفيه فأجابها : ما زلت صغيرة على هذا الكلام .. والحب هي مرحلة جميعنا مررنا به ... ولكن لم تخرج منه غير ألم الفراق والبكاء .. كلا ... لم أعد أختك الصغيرة .. أصبحت كبيرة بما يكفي لأختار وأقرر بحياتي .. قاطعه فيصل قائلاً : ولكن يا باسمة ...كل ما قلته لا يكفـ أعرف ما هو رأيك في ما أقول .. وأعرف أن الجميع بلا استثناء سيرفض ...وأعلم أنكم ستطلبون مني أن أنساه .. أعرف كل هذا ولكن لا .. لكن أكون قاسية إلى هذا الحد بقدر ما قست عليه الحياة .. فأنا له ..وسأكون له ...حتى لو كلفني هذا عمري كله .. أطرق عبد الله رأسه بصمت بينما اخذ أخيها فيصل يردد بذهول : أنظر يا عبد الله ما الذي تقوله أختك باسمه .أتراها جنتُ .. ما الذي يحصل ..كلا مستحيل فأجابه فيصل اهدأ أرجوك ..دعني أفكر بالأمر ..قد تكون باسمة محقة .. طالت نظرات الدهشة من عيناي فيصل وهو يجيبه : محقة ... ما الذي حصل لكما .. ما هذا الكلام .. أمسك بكتفيه وهزه قائلا : فيصل .. هل يهمك سعادتك أختك .. أم حزنها ... هل تتركها تموت وتذبل أمامك .. ولما .. من اجل كلام المجتمع .. ماذا عنها .. دع المجتمع يفعلوا ما يريدون ولكن سعادة أختي هي الأهم بالنسبة لي .. أخذ فيصل ينظر إليه بصدمة .. أحس وقتها بتضارب كبير بين عقله وقلبه .. عقله لا يسمح بما تقوله أخته .. هي أخته ولا يريدها أن ترتبط بمن هو بائس فقير ...فكيف يسعدها ...الحب وحده لا يكفي للعيش معاً .. هي مازالت صغيرة . ولن تستطع التحمل في سقف فقره .. وتتركه حتما .. ستعود إلينا مطلقة ..لماذا .. لماذا نسمع كلام فتاة صغيرة أختلط بها روعة الحياة والحب للواقع . .هي لا تدرك ما الذي سيحصل ..لها مستقبلاً . هذا شيء غير مسموح بكل الأعراف . والأجناس ..!! ولكن قلبه رق لحالها .. هو يعرف كيف يمكن للحب أن يكون مؤلماً .. كيف يسكن روح المحب ويستنفد كل طاقته وسعادته .. أخته الصغيرة وصورة لأمها الجميلة .. وديعة حنونة .. ملأت البيت لهم فرحاً وسعادة ... مضى مسلسل حياتها الصغيرة أمامه بكل تفاصيلها الرائعة !! فأجابه لها بود وحب طاغ : باسمة ....لست مجبوراً على إعطاء رأيك الآن . .. فلننس الموضوع .. المهم الآن متى ستخرجين من هنا .. فأجابت بشقاوة ومرح ...: اسأل عبد الله متى سيتم إخراجي من هنا .. أنا جائعة وأحتاج للحمام !! لقد أخبرنا الطبيب بأنك ستخرجين اليوم .. ولكنه سيأتي للإشراف عليك مرة أخيرة وبعد يومين ..عادا إلى المنزل .. وكلاهما يبحر في عالم أخر .. باسمة تبحر في بحر الحزن الذي سكن قلبها .. وعبد الله وفيصل يبحران بالحيرة القاتلة ،كل يوم يهمسان عماَ يمكن تقديمه لأختهما الوحيدة .. وكيف لهما أن يتصرفا ... وأخيرا قرر فتح الموضوع لها وإعطاءها القرار الصائب ..! أتت باسمة بخطوات خجلي نحوهما وهي مطرقاً الرأس ، قال لها فيصل والكلمات تخرج من فمه بأسى : الحقيقة أن ما أطلعتنا إياه .. وعن رغبتك ... اقصد...أ .. قاطعه أخيه عبد الله قائلا : باسمة لا بأس وجدنا أنه من الأفضل أن نمنحك حبك كاملاً .. يكفي الحرمان الذي عانيتيه بفقدان والديك .. أعلم أن الأمر صعب بالنسبة لدينا .. ولكن لا يوجد أغلى وأعز إنسان إلينا سواك ...أن كنت ٍ تحبينه فأخبرينا عنه .. سوف نتحدث إليه .. وتأكدي أننا لن نقف في وجه سعادتك غاليتي .. تطلع فيصل إليه بذهول ..لم يكن ذاك قرارهما .. ما الذي يحدث .. صعدت باسمه إلى حجرتها سعيدة جداً .. بينما أخذ فيصل في استفهام أخيه عبد الله لما أخلف رأيه ولم يقل ما تواصلا إليه من قرار .. نظر إليه أخيه عبد الله قائلا ً : فيصل أتثق بي ... نظر إليه بتعجب أكبر وهو يقول : ماذا ... هل أنت واثق مما تفعل .. هل تدرك حجم الخطورة والتسرع بفعلك ..أنها أختك الوحيدة ... فكيف تهدها أحزان ينفطر القلب به .. أيعقل أنك أنت من ستؤدي بها إلى بؤس وشقاء ..أنها الوحيدة ...وأختك ..ما الذي تنوي لفعله ..؟؟ وكيف طاوعك قلبك على موافقتها ... وأنت تعلم أنها مرحلة طيش وأنها مازالت صغيرة لمثل هذه الأمور ..؟؟ أجابه بثقة أكبر : فيصل ...أتثق بي يا فيصل ..؟؟ أنت مجنون ...مستحيل فيصل أنظر إليَ ..!! أتثق بي يا فيصل .. لوهلة سكت على امتضاض وهو يجيبه .. : لا أعلم ما الذي تنوي لفعله ولكن لن أسمح لك بتحطيم قلب أختي ..لن اسمح لك أبد أجابه بثقة أكبر : تأكد أنني ما سأفعل هو الصحيح .. والأفضل لنا جميعا ... وتأكد أنني سأقودكما إلى السعادة دائما ولن أسمح للحزن أن يطرق بابنا مرة أخرى .. تطلع إليه فيصل بتعجب غير مقتنع لما تفوه به .. فألزم الصمت حينما رأى أخته باسمه تنزل ومعها ورقة دونت فيه بعض الأمور الشخصية عنه .. فسحب فيصل الذي أشتط غضبا إلى الخارج .. وحينما صعد إلى سيارته أخبره عما سيفعل ..وما الذي ينوي لفعله .. أقتنع فيصل لقوله وأرتاح لتصرفه ....وذهبا فعلا إلى منزله بعدما بحثا عنه وحينما وصلا... رآهما فرحب بهما دخلا إلى منزله .. لم يكن معه أحد ... ولم تكن والدته قد عادت بعد .. مضت ساعتين وخرجا بعدها وهو مبتسماً وهو يلوح لهما مودعاً بصمت مطبق ..عادا إلى منزلهما ... بفرح كبير ولما أقبلت إليهم باسمه أخبرها عبد الله أن الأمور تسير وفق ما تريده ... ولكن بشروط .. تعجبت باسمة من القول فسألتهما عن الشروط أجابها عبد الله : باسمه لقد رضي بك زوجاً ولكن لديه شروط التي لن تنتهي ولعلي أذكر أهمها ..: اشترط أن لا تأكلي غير وجبه الفول كل يوم ثلاثة مرات . .. رغبة منه أن تتعودي في طعامهم الأساسي .. أشترط أن تلبسي يوميا ً جلابية سوداء ... ولا تغيرنها مهما حصل ، وأن تنامي على الأرض .. لمدة شهر أشترط أن لا تستمتعي معنا بمشاهدة التلفاز ولا بالخروج من المنزل .. وذلك حسب تقاليدهم وعرفهم ... وأن تعملي بنظافة وغسل وترتيب المنزل يوميا كما يفعلون هم أشترط أن تطيلي شعرك ولا تقصيه مهما كان .. وأشترط أن لا تتزيني بأي شيء سوى الكحل .. رغبة في عدم حرج مشاعر والدته .. ولا تستعيني بنا في أي شيء واعتبري نفسك في بيت زوجك ... ولتعلمي أن كل هذا ستطبقينه هنا بالمنزل لمدة شهر كاملاً قبل أن يأتي طالبا يداك ... نظرت بتعجب هل أنتم واثقين مما قال .. أقصد ...اعني أنه أشترط كل هذا ..... نعم ومن ها للحظة سوف تطبقين ما أمرك به ... ألست تحبينه بجنون ... هيا أليك ما طلب .. فقومي به حالاً ..نظرت بنوع من الدهشة وهي تتمتم : نعم صحيح .......من أجل الحب سأفعل .. وانسحبت بهدوء .. مضى اليوم الأول وهي بحالة مزرية جداً ... واليوم التالي والثالث .. وبعد أسبوع رغبت في تغير ملابسها ... أحست برغبة في مشاهدة التلفاز ... أردت أن تأكل البطاطس المقلية ... شعرت بالحرمان والقسوة .... مضت صامته ... وهي تشعر أن هناك أمور كثيرة فقد فقدتها .. لم يكن هناك طعم للحياة ... تشعر بالقيد .. وقسوة الحال .. صبرت الأسبوع الثاني ... كادت أن تنهار من شدة صعوبة الحال ... وفي الأسبوع الثالث .. وجدت أخاها عبد الله يشاطر فيصل لعبة الشطرنج .. ذهبت إليهما قائلة في أسى : أنا لم أعد أريده ... ولا أريد حبه .. تطلعا إليها بتعجب ماذا ... لا كيف ... لقد وعدنا الرجل .. وسوف يتقدم لخطبتك الأسبوع القادم .. كيف هذا ... ارجوكما لا ...لم اعد أريده ... ولا أريد حبه .. مستحيل ...كيف ...ألم تقولي أنك سوف تحبينه حتى لو كلفك عمرك .. الأمر تم .. أم أنك تعتقدين أن الأمر مجرد لعبة حب ..؟؟ لا ... أرجوكما ... لم أعد أريده .......لقد كرهته ....عيشته صعبة .. ولن أستطيع التحمل أكثر .. أرجوكما .. باسمة ... هذا ما أخترتيه أنت ولم نجبرك عليه ... ألم يكن حبك له من سعادتك ... وسعادتك تهمنا كثيرا .. وأنتي أختنا الصغيرة و لا نستطيع رفض طلب لك .. أختكما الصغيرة .. نعم صحيح ... ولكنني لم أكن أعلم أن الحياة ستكون بهذا الشكل ... أرجوكما ... لقد سأمت من العيشة هذه .. لم أعد أريده .. كيف مستحيل وماذا نقول له ... لابد أن نلتزم بعهدنا له ...ألم تكوني تحبينه وتريدينه مهما عارضناك أو وقفنا ضدك ... نحن أخواك . .. ونتمنى سعادتك دائما ... وهذا رغبتك ..هيا أستعدي فما بقي غير أسبوع واحد وسوف يأتي إليك .. انسحبت بهدوء بعد أن انحدرت دموعها في مقلتيها بحرقة ....... مضت ثلاث ليال وهي تبكي بحرقة .. وتندم على حبها له .......وكيف أنها لم تفكر يوما كيف ستتفق معه... حالة هذيان تقمص بها رعبا ... سوف أذهب إلى منزله ...... كيف سيكون حالي .. لما أعيش بفقر وقسوة ... إلا يكفيني فراق أبي وأمي ... ما هذه التعاسة ... لا استطيع ..لا استطيع وفي اليوم المحدد مضى كله في خوف وترقب منها ...تستفز خوفا من طرق الباب ورنين جرس الهاتف ... وما أوشك النهار بوداعه ليدخل الليل حتى انهارت بشدة وصرخت بهما أرجوكما ... كفاني عذاب ... لم أعد أتحمل تواجده .......لم أعد أريده مطلقا ..أنتما أخواي .. كيف رضيتما بالحالي عندها انسحب فيصل قائلا : أختي تحملي الحياة صعبة بكل الأحوال والحب يتوجب له بتضحية كبيرة بكت وهي تردد : تضحية ... لست أنا .. لست أنا من سأضحي بحياتي له ... حينها دق باب .. ودلفت إلى الداخل .. وذهبا ليرحبا به وهما بقمة السعادة والفرح الذي بدأ عليهما ... انسحبت إلى المطبخ وهي تسقط كأس زجاجي في الأرض ليتكسر شظاياه بجانب قدامها ... فدلف إليها أخيها عبد الله مسرعاً قائلا لها : أسرعي يريد أن يراك الآن ........هيا ... تعالي ؟؟ أخذت تبكي بحرقة وهي تلعن حظها ولحظة قولها لهما ... ندمت بشدة ولكن بعد ما حصل ما حصل ... لا مجال للتراجع ....... فجأة أتى أخيها فيصل قائلاً : الم تعدي القهوة ... أسرعي نريد أن نفرح بك ... غاليتي ..!! ملأت عيناها بألم وهي تستفهم ألم يرو أخواي دمعتي .. ألم يرو حزني ..ألم يكفي رفضي ...أستحق ما حصل ........ ليتهم رفضوا ......ليت أحدهم ضربني قبل أن يحصل هذا لي ..لماذا ...لماذا ..؟؟؟ بعدها دلفت إلى حجرة الجلوس وهي تشهق بقوة القهر الذي سكن فؤدها ... تقدمت ببطء نحو أقرب طاولة وضعت القهوة وانسحبت بهدوء ... ألم تسلمي علي حبيبتي ........!! توقفت برهة من الوقت ...لم يكن سؤاله غريباً ..وصوته ... ألم تتعرف عليه بعد ... لقد كان عمها .....أنه صوت عمها ... الذي كان يدلعها في صغرها كثير ...... ويموت بنسمة هواها ..... لقد أتى ...نعم أتي اليوم لمراسيم خطبتها ...... تطلعت إليه وهي تبكي بحرقة ...فضمها بحضنه قائلاً .........: هل ما اخبروني به أخوانك صحيح ..؟؟ طأطأت رأسها بألم وهي تدفن وجهها في صدره ولسان حالها يردد ...: نعم ....صحيح ......ولكن أنا لا أريد .... لا أريد ...... أنحى لها ووضع يداه أسفل وجهها فرفعها نحوه وجه قائلا ً : وهل أذنت أنا لك .... فأنا لم أوفق على زواجك بعد ......... بكت بصدمة فرح وحزن ..... وأردف لها : نعم حبيبتي ..... باسمة أنتي أغلى ما لدي .. فأنت من رائحة أخي الغالي .. صديق طفولتي وشقيقي الوحيد .. لن ادعك ..... لن أدعك تتزوجين إلا لمن سأختاره لك حبيبتي ..... طأطأت رأسها بأسف بالغ وهي تردد له : وأنا لن أخالفك يا عمي أبداً ....فأنت أبي الثاني ...!



" .......... تمت ..........."

مراسيم حافية القدمين

on السبت، 25 يوليو 2009




خفق قلبها فجأة .. عندما ردد لها قائلا : " سوف أتي اليوم لرؤيتك حبيبتي .. "
لم تستطع كتمان فرحة طالت لمعة سعادتها في أفق عيناها من وقعة الحب حتى أعمق أعماق ذروة فؤادها .. أخيرا ستلتقي به بعد ثلاث ساعات. .... فلطالما تحدثا سويا على النت لساعات ، وبالهاتف لدقائق أطول ... ..
كانت تراه من خلال كلماته وردوده وانفعالاته... كان كما تتمنى هي رفيق درب روح وشريك فرح وحب ، ... كان لجرأته أكبر دافعا لفسخ الخجل من عينيها .... بعد أن تعرفت عليها جيدا ؛ أشهرت حبها وسط استعداد لمراسيم حافية القدمين الخجلى .... تلك الليلة عايشته بكل تفاصيل حديثه.. ووصفه لنفسه .. وعن طبعه الحاني ... وعن حبه الكبير لها ... يومها لم تستطع النوم طول الليل ... شعرت بأنها لوهلة ملكت الدنيا في أسطورة الحب الخالد ... خلدت كل تفاصيل حبها في صور وسط ذاكرة قديمة قارب لونه على الصفار ... ومع حبها كانت تتولد تلك الرغبات العميقة ... بالأمل والحب ... والشغف لدرجة الجنون ... يومها لم تستطع كتمان حبها الفاضح بالجنون ... أدركت صديقتها المقربة حصة الوهم الذي تعايشته ... كانت دائما ما تنبهها بقولها الحازم الممزوج بالخوف والاهتمام :
جـميلة .... أننا في واقع لا ينظر لمثل تلك اللقاءات ببراءة وأنتي تعرفي أن أعز ما تمتلكه البنت شرفها ، لا تقولي لي أن قصده نبيل، ولكن ألسنة الناس لا ترحم!!

جادلتها قائلة بخوف من الماضي التعيس الذي تعايشته لحب ضائع ... وألم كبير .... من شخص تركها لأجل ابنة عمها ... والتي كانت أجمل منها بدرجة تفوق الوصف رددت بشيء من اليأس والأمل البأس :
كل ما أريده أن ألتقي به على مشهد من الناس وفي مكان عام أفي ذلك حرام ؟!
لقد وعدني بالتحدث نعم ... سوف يقولها اليوم لي بكل صدق وعيناه في عيناي ... سوف يطلبني للزواج بعد حب كبير .. بعد حب وجدته بصمت ... وأنا في قاع القهر ...
اقتربت منها بحنان ورببت على كتفها بشيء من الأخوة ... وهي تقول :
غاليتي الحب هو مباح ... وشيء رائع أن كان يتوج نهايته بزواج وعائلة وأطفال ....
ولكن ما بدأت به نهايته سوف تكون اشد من حبك القديم ... أخشى أن يزيد حرجك الجديد بالقديم ... سوف يكون من الصعب .. تجاوزه بسهولة ..
أجابتها بشيء من الرفض والتكتم :
الحب بين اثنين من عباد الله ليس حرام؟!!
هل الحديث من أجل بناء أسرة وأطفال في المجتمع يشترط أن يتوج بالحب !!؟
أنظري حولي .. هل كل أسرة سعيدة .. أنظري إلى نفسك ... لما أمك منفصلة عن أباك ...
هل الحب كان له وجود ...!! أين الحب الذي تستدعينه ...
وأنت تعايشين ضحية أسرة لم تقدر الحب يوماً ..
انحدرت من عيناها دموعها الحارة ... ولاذت بالصمت .. أطبق الصمت على المكان لبعض دقائق ...
عادت بهدوء إليها قائلة بشيء من الأسى :
أنا آسفة جداً ... لم أقصد أن أحرجك ... اعذريني ..أرجوك ..
لم ترد عليها وأخذت تنسحب بهدوء مؤلم ... تركت في نفسها شيء من الأسى والقهر ... حينها أوقض في نفسها شيء من بصيص الفرح .. عند رنين جرس الباب ...
بدلال تترسم خطواتها ...الملتاعة ...فتحت الباب لتراه عامل توصيل طلبات المطعم الايطالي ...عادت لحجرتها ... تتفقد زينتها وتكمل ما تبقى منها ... مضى الليل ... وبعد يوم أخر ... مضى أسبوع ولم يأت على موعده ... انتظرته على أمل .. حتى تضاءل شيئا شيئاً ..
تركت في نفسها أن هناك ما يمنع حضوره لها ... خصوصاً وأن هذا أول موعد لهما ... لم يسبق أن التقى بها مسبقاً ...كذلك أن انقطاعه عنها أكد لها أن مكروه قد حصل له ... ليالٍ عديدة مضت وهي على أمل لظهوره ..في صفحة حياتها ... مجدداً ... أصبح حبها له يصيغ واقعا بدا يكبر في خيالها شيئا فشيئاً .... وتداعت إليها كل المشاعر التي تترعرع في بستان الحب ... كأنها ضمة ريحان، أو سيقان نعنع في حديقة مترعة بالطين اليابس ، فلم تعد ترى في أفق الزمان إلا تلك الساعات التي ستكون أجمل ما في العمر و أحلى ما في الحياة.. ...كان مجرد الحديث إليه كافيا أن يزيح عن روحها هموم سنين، وأن يفجر فيه ينابيع الفرح والاشتعال ... شعلة الحب الحارق بكل ما يلفه من شغف وجنون ... كان أملها البسيط الحلو أن توقظه ذات صباح وفنجان قهوته يفوح رائحة شهية ....حلم بسيط ورقيق كرقة حلمها الوردي ... كم رسمه رسمتها في أحلام أيامها الهائمة ... بجدران تملأ ألوانه دفء الحب الحاني ... كم كان لساعات اللقاء تخيلات !!؟..
كانت تتمنى في نفسها كل العطف والحب أن تقدمه كل مساء ... ولروحها تفديه كل صباح مشرق ... دائما ما تردد في ذاتها بشغف :
" كل يوم سيراني بكامل زينتي .. كعروسة تزف كل مساء .. هكذا ينبغي أن تراني ..لا ..سألبس فستاني الأحمر القاني... وكلما تحاول تنسيق ثيابك ... وشعرك أمام المرآة!! سأكون أمامك بخفة تتسلل يداي إليك بخفة لأترك لمساتي الرقيقة بك ... "

مطت شفتاها في حياء وهي تتخيل الموقف ثم تسحب وسادتها الصغيرة لتضم إلى صدرها وهي تهمس برق :
سأكون معك في الصغر والكبر ... سأكون ظلك الناعم ... ونبض أنفاسك التائهة ... على شاطئ البحر..سنسير معاً ... وبصحبة أولادنا الصغار .. سنشاهد كل تفاصيلهم الصغيرة .. بأحضاننا ... ونتوج لهم يوم تخرجهم سوياً بقالب حب كبير ... وغداً في عجزنا وغدر الكبر بنا ... سأقبل يداك .. كما في أول يوم بعد زواجنا ... ماذا سأقول لك في زمن أصبح كل شيء فيه جميلاً بوجود الحب ؟"

تمددت على سريرها القرميدي اللون ... بغطاءه الأبيض المثير ... وهي تتحسس بكلتا يداها في شغف ودفء ... وهي تردف بصمت أوشك على الانفجار :
هنا ... سأشاركك لعبة الحب .. والألم ... وهنا سنحيى حب طوى سنينه الحزن .. ولوعة الفراق ..بعيناك التي سوف تسترق نظر اللذة في ملامح وجهي ... سأختبئ منك داخل أنفاسك في خجل وتتوارى عيناي بشيء من الفرح والحب الذي يقودني كلماتك الحانية إلي ...ولكن لك طرق لتعذيبي .... قد أسكت فالسكوت هنا أكثر دلالة.. ... تمسك بيدي تحس بحرارة اشتياقي لك ... فأسحبهما في شيء من الحب لأبتعد عنك بعيد والخجل يلفني حتى أخمص قدماي .....ولكنك لم تنسى أن تحضر لي وردة حمراء كما في لقائنا الأول ... "
يصل لها رسالة من مجهول ... لتتلفظ أنفاسها وهي تقرأ سطوره بألم وصدمة تشق كيانها المتصدع بالحب .. " أسف ... لأخباري أن ناصر قد مات يوم أمس بعد ما عاني من ضرب بالرصاص واعتقاله مع متظاهرين وسط السفارة بالأسبوع الماضي .. ارجوا حضوركم غدا لمراسيم دفنه ... "

فجأة انحدر دموعها بحرقة على خديها الناعمتين ... لتكتشف أن أصعب شيء في الحياة أن يكون الحب صادقا ً وأن أصعب شيء أن يصدق مجتمعنا أن يكون للحب مكان أو فسحة من الوقت .... فالزمان زمان الحرب والقتال بالمجازر بعد أن ارتوى بآهات وصرخات أمتها .. في كل مكان وبقعة أرض .. هناك حب يتزاحم داخل ضجيج الموت ... في كل بيت وعائلة يكمن الحب داخل أنفسهم وسط ضيق العيش وقلة الحال ... وباليوم التالي كانت هناك بزيها الأسود المفحم بالقسوة ... كانت ترتدي في معصمها أسورة من ذهب أبيض كان قد أرسالها لها في يوم احتفال تخرجها ...عن طريق أحدى شركات البريد السريع .... وقد وعدها يومها حينما يراها سوف يكمل حبه بأن يضع نصفه في يداها الأخرى ... لم يأتي كما وعدها ..ولم يكمل لها كما اخبرها ... أخذت تنظر إليه بألم وقهر ... تسير حافية القدمين إليه ... إلى قبره ... إلى روحه المدفونة في باطنه ...تبكي بحرقة ... وهي تتحسس موضعه ... تضع وردة بيضاء ... فالحياة لا لون لها من بعده ... انحنت إليه وهي تهمس له ... :
سأنتظرك .. يا ناصر ... سأنتظرك مهما حييت .. !!
رددت في أنفاسها المكسورة : " الحب حبك .. ولكن يكون من بعدك حب .. "
أدركت مع طول العمر القاسي أن أصعب شيء لرجل يعيش هذا الواقع .... واقع أن يتعرف على امرأة تكافئه إدراكا وتملأ عليه حياته فرحا وحيوية .... فالحقد والغصب سيمحى حتما لحظة ضعفه ... المرأة... حتما سيتركها مع دوامة الحياة القاسية ... شعرت بالغضب حينها عندما وجدت أن الحب كاملاً ... كاملة كما تشتهي روحه ... كم كان حبه عميقا في قلبه ... مضت أيام لا لون لها والدموع لم تفارقها كل ما تذكرت أحلامها الوليدة تتلاشي أمامها ...كم كان رائعاً .. أن يولد الحب في تلك اللحظات وهو قد ودع بعضا من أيامه القادمة في زمن الحرب الأخيرة ...

" .......... تمت .........."

غيرة أثنى

on الجمعة، 17 يوليو 2009



ارتميت على فراشي .... لأبلل وسادتي بدموعي الغريزة ... بعد أن غسلت وجهي أثر تلقي الصدمة العنيفة بي ...
لم اعد أحتمل البقاء أكثر بعد أن رأت كلا عيناي الحقيقة أمامي ... " أنه زوجي ... الخائن ... وعشيق المرأة الحقيرة ... ياألهي .."
أخذت أردد هذا بلا وعي .. وأنا أسدد ضرباتي العنيفة على وسادتي ... وكأنني أنازعه هو حتى تمزقت وتناثرت ريشتها البيضاء حولي ... بمرارة بكيت ... تألمت ... الوضع لم يعد يحتمل ... التعين منه .... لقد رأيته وهو يخرج من شقتها .. شقة " أم سميرة " المرأة الأعجمية ... منذ زمن وهي تعيش هنُا بيننا ... في العمارة الواحدة ... لا فرق بيننا سوى بطوابق فأنا اسكن في الدور الثاني ... أما هي ... ففي الطابق الأرضي ... لا نعرف عنها سوى امرأة وحيدة ... لديها أبنتها الصغرى " سميرة " ...
الفتاة البريئة المليئة بالشقاوة ...والحيوية ... والحنان منذ صغرها .... ولا تبالي بما يهتف صغار الحي من أنها أبنه الحرام ... ... بل أنها لا تدرك معناه ... دائماً ... ما أجدها تلهو في مدخل العمارة وبيدها لعبتها الدمية ... تلهو بها كيفما يحلو لها ..... تمضي الوقت واليوم بأكمله في الشارع رغم أن عمرها لم يتجاوز الأربع سنين ... أما أمها التي تبقى داخل شقتها لا نكاد نراها إلا إلماماً ... كانت تعمل في مكينة الخياطة ... تخيط ملابس النساء وما ترقع من الثياب بمبلغ زهيد .. دائماً ما كنا نلاحظ تردد النساء إلى منزلها .... بشكل دائم ...
حياة بسيطة ربما أقرب إلى التقشف والزهد صحيحاً إنها لا تزاور نساء الجيران ... إلا ما ندر ولكن جمالها غالباً ما تسلب رجال العمارة بأسرها ... جمال هادئ بتقاسيمه يميل إلى النقاء ... تبدو بهيئة مزرية في أغلب الأحيان ولكن جمالها وبياضها تُأكد إليّ أنها ورثت من احد أجدادها الأتراك ... وربما هي كذلك أنف دقيق يشف عن مدى التجلد والتحمل التي عانته ... وعيناها خضراوان تحيط بها أهدابها السوداء التي تعلوهما حاجبهما الدقيق وكأنهما قد رسمتا بشكل دقيق ... منسق في أطار بديع التي تقابل شفتيها الورديتان باستدارتهما البيضاوية ... ملامح جامدة ...بلا معالم ... بشعرها الحريري والذي ينسدل أسفل كتفيها .. وإن خرجت لتقضي حاجتها تحمل أبنتها " سميرة " بعد أن تلف على جسدها عباءة سوداء تجمع طرفه في قبضة يدها اليمنى .... توحي لما يراها أن الأرض مبتلة بالطين وتخشى إلا تتعثر في الطريق المنعرج ... هكذا تذهب حينما يكون الشارع فارغاً من البشر المارة ... ولا تعود إلا بخلو المكان من البشر بعد أن يحل به ظلام دامس ... عرفت ذلك الحين أنها تذهب في الصباح ولا تعود إلا عند حلول المساء ... فكثرت الأقاويل بها ... ليُشاع بأنها امرأة لا قرار لها .... حتى الصق بها لقب " الساقطة " ...
فمنذ أن سكنت أنا وزوجي حتى الآن لا نعلم عنها أي شيء أخر سوى ذلك ... لذلك بكيت ... فمنذ مدة وأنا أتشكك بتصرفات زوجي الغير مبرر ...لاحظت التغير البادي عليه ... بدأ من أوقات عمله التي زيدت ونقصان مرتبه الشهري عنا بقيت في حيرة من أمري ... حتى أوجست في نفسي بأن هناك شيئاً يخفيه عني ...حملت على عاتقي مراقبة وقت انصرافه وميعاد قدومه ... وفي بعض الأحيان أحاول الاتصال به .... في مقر عمله ... فلا يجيب بعد قدومه ... أو ذهابه مبكراً ... دارت الأسئلة في مخيلتي طويلاً ... حتى تيقنت بأن هناك امرأة في حياته ...بدأت تسلب حياته مني ....شيئا فشيئاَ ... بدأت الأفواه تعلو بما تم ملاحظته ...حركة غريبة في شقتها ... فرائحة الطبخ المميز يسلب النفس عند مدخل العمارة ... طعام شهي ...بدأت أبنتها بهيئة مرتبة ... بعد أن كانت بشكلها الأشعث ... بثوبها القطني القصير الذي يكشف عن ساقيها المغبرتان بالأوساخ ... أصبحت أكثر نظافة ورقة بفستانها السماوي المزين بخيوط ذهبية لامعة المنسقة بشرائط بيضاء حول خصرها ... تبدو فتاة مهذبة ومن الطبقة الراقية ... أصبحت مغايرة عما كانا نعلم عنها بالسابق ... أصبحت نظيفة ترتدي قبعة بيضاء لينسدل شعرها الأشقر الحريري حول جبينها .... ليوازي حاجبها الدقيق ..
كانت تنتعل حذائها الأسود بجواربها البيضاء الناعمة ... أما أمها فلا نكاد نراها بتاتاً ... أيكون هناك رجلاً في حياتها وإلا من أين لها هذا المال ... وهذا النعيم الذي ترفل به ...هي وابنتها " سميرة " ... وبالفعل بدأنا بمراقبة منزلها ... ومن يكون وليّ أمرهما ... لكننا احترنا في مفترق الطريق .... فلم نعد نسمع مكينة الخياطة العتيقة تدور في منزلها ... ولا زوار في منزلها كما في السابق ...
أصبحت أكثر اهتماما ً وأحسن حال .... حتى صعقت ذات يوم بما اخبرني ابن الجيران ... أن حينما سأل " سميرة " بمن جلب لها هذه الثياب لتجيب له وببراءة " فيثل " .... تقصد به فيصل وهو اسم زوجي ... " حيث أنها دائما ما تنطق حرف الثاء بدل من أحرف كثيرة ....
لا أكاد أن أصدق ... ما العمل ...؟؟؟ ولكنني أرجعت حبها بزوجي لأنه يشفق عليها ويعطف على ابنتها " سميرة " ... فكان غالباً ما يحن عليهما .... ويهدي لابنتها بعض الحلوى التي يجلبها مع في الطريق .. وكلن الآن قد صدق ابن الجيران لما قال ... لم يكن ليجلب لها وإنما ليتودد ويتقرب من أمها ...التي لا يعرف عن عائلتها أو عن أبا الطفلة من شيء ... فربما ذلك ساعده لتتقرب منها بعد أن سنحت له الفرصة وبالمصادفة أن يراها ... حينها توقفت عن البكاء وعن التفكير أيضا ... عندما سمعت وقع أقدام قادمة نحوي ... أطلت نحو عدسة الباب فوجدته يصعد إلى شقتي ... كدت إن اجن ...أيخدعني أنا .. ومع من ... مع تلك الساقطة ... لا ....لا يمكن ....
حينها سمعته يدير مفتاح قرص الباب ... كدت إن أجن وافقد صوابي ....فكيف أواجهه بالأمر ... وهل الوقت مناسباً لمناقشته ... هل افتعال الشجار بعد منتصف الليل ... خشية إن يعلم جيران العمارة بأمرنا ... أم اصمت وابقي الأمر حتى يوم غداَ ليتسنى لي التأكد منها أولا ... سأذهب إليها غداً ...سأحادث أم " سميرة " عن الوضع المريب التي حدث لنا .... أتراها تتقبل الأمر ... أم سترفض الاعتراف فيه .... حتماً سترفض لأنها تعلم أنني زوجته .. ذاك الذي يسمى حبيبها وعشيقها ...إلا لو كان زوجها ... ؟؟
وقعت الكلمة شديدة على قلبي ... وبمجرد أن أردد الكلمة أشعر بانفجار يحطم نفسي وصداع هائل يزلزل عقلي ...أنه أمر فضيع الشعور به ....
تخيلت الأمور ابعد مما هي عليه .. في أرض الواقع ... دلف زوجي إليّ ...قبلني في جبيني ... شعرت بالتقزز وأنا امسحها بينما أطلقت سؤالي المجروح ... وبي شيء من الغضب الهادر ...حاولت إخفاءه بقوة وسط أنفاسي ...
أتريد أن أقدم لك طعام العشاء ....؟؟
أجابني حينها ببرودة لا تطاق منه :
كلا ...لا أريد ...
وسار نحو الحجرة ليسقط جثته على الفراش ... ياألهي ... لقد تناول طعام العشاء معها ..وتركني غير مبالي بي ...... تباَ له ... لقد تناول طعامه هذه الليلة معها ... ربما امضيا وقتاً ممتعاً ... منعه من أن يستقبلني بود كما كان يفعل كل مرة ... ربما وجد بها شيئا أثاره ولم يجده بي... ما العمل ... ياألهي ما الحل إذن ... أطرقت ساعة من الزمن وأنا أدور حول فراغ مستميت بلا فائدة ترجى ... قفزت حينها فكرة جهنمية إلى مخيلتي .... سأبحث في جيبه عن مفتاح .. أو رقم .. أو رقة ربما تثبت لي صحة ما رأيت أو على الأقل تفسر الوضع الذي أنا عليه ...أخذت حينها أبحث بينما كان هو مستغرقا في نومه ... لم اعثر على شيء ذي أهمية تعنى .. ترى ماذا علي أن أفعل .....؟؟
جن جنوني ...لما استطع في تلك الليلة النوم بسلام ... وبجواري مكمن الأسرار والألغاز يغط بنوم عميق ... لم استطع أن استشف شيء مما وجدت يثبت لي صحة شكوكي ... لم أجد ما يثبت انه على علاقة بها .... يئست ... مضى يومان وأنا على هذا الحال ... في نار الغيرة أتلظى .... وفي حكم الشك أتقصى ...
وفي اليوم الثالث ... شاءت الأقدار أن تبين لي الواقع الذي خفي عن عيني وطمس وجه الخير من بين يدي زوجي الغالي ...كنت على موعد إلى الطبيبة لإجراء الفحوصات المبدئية حول تقرير ثبوت الحمل أم لا ... وبالفعل ذهبت أنا وزوجي إلى الطبيبة هناك ... وتم إجراء الفحوصات سريعاً ... ولكن زوجي قد نسي أن يجلب ورقة الموعد السابق للتحاليل لتتطلع عليه الطبيبة حول ما كتب بها .... و يا لمصادفة أحضر زوجي أوراقي مع ورقة باهته اللون تميل إلى الصفار والتمزق .. لقد كانت ضمن هذه الأوراق مصفوفة ..حينها قدمها إلى الطبيبة ...أعادت له الورقة هذه وكنت أتفحصها بعيني حتى سحبتها منهما وفتحتها سريعاً لأطلع ما دون به ... شيئا مريعاً .. شيئاً يكشف لي مدى التغير المفاجئ لجارتي أم " سميرة " والسبب الرئيسي لتغير تصرفات زوجي ... أنه هو ...لا غيره ...من اهتم بقضيتها.... شعر بواجبه الإنساني تجاه هذه المخلوقة الضعيفة ... ليجد لها السكن والماؤى .... بعد أن تابع إجراءات ابنتها " سميرة " وإصدار شهادة ميلادها ... باسم والدها السجين ....نعم والدها الحقيقي ... فمنذ أن دلفا إلى هذه البلاد حتى تعرضا إلى السرقة برا ... ونهب حقائبهما وممتلكاتهما ... وكانت من ضمنها ... مجموعة أوراق وسندات وقروض قد سرقت منهم ... فلم يستطع أبا " سميرة " فعل شيء بعد أن قبض عليه ... سداد القرض الذي لم يمضي على استلامه شهراً واحداً وبالفعل سجن ولعدم وجود أوراق رسمية ... تثبت ذلك حينها ضاعت ام " سميرة " وابنتها في هذه الحياة الظالمة ... وعلمت حينها من زوجي أنها كانت تخرج من الصباح لتزور زوجها المسجون ..ثم تمضي إلى مقر السفارة لتنهي إجراءات المعاملة الخاصة بهم ... فلا تعود إلا بعد حلول الظلام ... وعملت أيضاً أنها كانت تخيط مما يتسنى لها الوقت لسداد الدين عن زوجها السجين وبالفعل أكمل زوجي دينه الناقص عليه ... ليتم إجراءات خروجه بعد أسبوع ... ياألهي ... كل هذا يحدث دون أن أدرك هذا ... وكيف حصل بي إن شككت بزوجي في مسألة خيانته لي ... ما كان علي إن افعل هذا ... ولما لم يطلعني بالأمر ... أكان الأمر يستحق السرية التامة فيها ... بكيت حينها أكثر وأكثر ... عندما ضننت بهما سوء ...أنه زوجي ... هذا زوجي الملاك الطاهر ... الإنسان الرحيم العطوف ... كيف له أن يغفر لي لو علم ما كنت أظن به ...كيف سيسامحني بعد ما فعلت به ... يا حسرتي ..أدركت حينها أنني لا أستحقه ... أنه فعلا رجل منبع الخير فيه كامل ...
بكيت ورجوت من الله أن يغفر لي ... وحينها لم انتظر منه شيئا ...بل بادرت إلى تقديم المعاونة والمساعدة وشد أزرهما في إنهاء هذه المعاملة الخاصة والإنسانية ... وبالفعل خرج أبو " سميرة " والذي لم يكن على دين مثلنا ... فأسلم ... بعد أن علم وتأثر من موقف زوجي وأسلمت معه زوجته أم " سميرة " ..أيضا ... وبعد مضي تسعة أشهر ... أرد الله أن أضع طفلي الأول " عبد الله " في نفس الأسبوع الذي اجتاز ونال أبو " سميرة " شهادة الدكتورة بمرتبة الشرف في الشريعة وأصولها ....

" ......... تمت ........ "

معشوقة الملايين

on السبت، 4 يوليو 2009





كنت أحاول أن أعالج الشرود و ضياع خيوط الفهم بين صفحات الكتاب الذي كان بين يدي .... ، كتاب شيق للغاية ... حاولت أن اربط بين المعاني ... لكنها كانت تتمنع ... .فيسرقني من بين لحظات سكون العاصفة نحوها ... هي ...سحرت لبعض ثواني في سراب طيور الليل ... مازلت أحبها من صميم وجداني ... لم تكن امرأة كمثل الأخريات ... لقد كان لها رائحة مميزة ... ونظرة ساحرة ... انسحبت من شرودي فجأة على وقعة كوب القهوة في قميصي ...

عدت إلى كتابي وأنا أسترق النظر خلف أحرفه الخجولة ... كان التشتت الذي ينتابني يزيدني إصرارا على محاولة التركيز وتجميع ما بقي عندي جهد من ذهني لترتيب الأفكار واتساق الإحداث التي جرت مسبقاً ... مازال الاكتئاب يلزمني منذ فترة .... بدأت تطول و تزداد وطأته حدة وقسوة ... ،تذكرت صديقي اللي يرتد دائما عيادة الدكتور خالد للطب النفسي والأسري ... كان أول ما قاله حينما يصل إلى عيادته :

فقط خذ نفساً عميقاً وتذكر أنك متميز دائما ً ...

بعدما أخذت نفساً عميقاً وقع عيني على الكتاب فقلبت الصفحة " يا ألهي !!! "

قالتها في نفسي وأنا انتبه إلى أن خطأ حادا في ترتيب الصفحات هو السبب الحقيقي وراء هذا الاختلال وتشتت الحدث ....كان يصعب علي أن انتبه إلى كل هذا.... أخذت أقلب صفحات الكتاب بدون هدف !! ... كدت أن أمزق صفحاته القديمة .. بغلافه اللون الأصفر البالي اللون ..... لولا أن صوتا نبهني فستوقفت ..... ...كان الصوت بعيدا ... . صوت لرجل أغلظ يمازج أحرف كلماته من الحشرجة و البكاء ... بضع ثواني حتى اتضحت لي معالم وجه ... لقد بدأ نحيفا و قصير القامة يشوب لون بشرته السمرة القاني ِ ... قد أختلط لونه بعروقه المتصلبة حول أطرافه ... خطوات تقربه مني ... حتى داهسة سيارة ذات سرعة مجنونة .... أخذت أنظر للحظات ...كيف أن الموت والحياة لا تفصلهم غير ثواني معدودة ........ إن حرقة فقده مازالت تتقد في قلبي وصراخه مازال يطن في أذنيّ ... وصورته ملطخـ بالدماء مازلت أتذكره للتو كيف حصل كل هذا في أقل من دقيقة !!
أحسست بقشعريرة تستبد بي وكادت آن تقفز دمعة من مقلتي لولا أني اجتهدت في قبضها ، كان للموت حكايات عندي ..وفصولها دموع امتدت لليالٍ عديدة ... . وللحزن ولادة جديدة في كتلتي الشعورية ... .مثل كل البشر و مثل كل الأنفاس التعيسة ..... التي تستهلك نسائم الدخان في قبر الأحزان ...
انتبهت عندما عدت إلى الكتاب بحثت الصفحة التي كنت أسترق كلماتها ....... فتنبهت إلى أن الصفحة المائة كانت تجاور الصفحة قد تجاوزت صفحة المائة والخمسون .... قلبت صفحاته المجاورة فاكتشفت أن خطأ في التنسيق يمتد بين الصفحات العشرين السباقة للخمسين ... . الحق أني لم امتعض أبدا من هذا الخلل الفني،.... فقد كان يكفي أن انتبه إلى التعرج الذي يصيب الحدث ..... و إلى عدم موافقة الكلمات الأخيرة و الكلمات الأولى للصفحات الموالية ........لكني كنت دائما حسن النية في مطالعاتي .... مما جعلني ازداد حيرة في الفهم و تقصي المعنى ......كان شكي في قدرتي على إدراك نوايا الكاتب........ و التعرف على النسق الذي اختاره لقصته ( معشوقة الملايين ) .... كما أن الاحتفاء النقدي الذي صاحب توزيعه زادني غشاوة ارتد فيه العيب لى ...
تناهى إلى مسامعي صوت صاخب .... من بعيد ... أخذت ألمح المارة .... مضت سيارة ذات محرك قديم يصاحبه صرير حاد للأذنين تعالت أصواتهم مع اقترابهم .... .وحينما مر من أمام عيناي رأيت صورة لطفل بينهم صامتاً ... ينظر بشيء من الأسى والدمع يتراقص في محجريه بألم ... مضت الحافلة من أمامي تزفها صوت محركها اللعين بصوته الحاد ...
انغمست مجددا في القراءة وقد ترتبت عندي الأحداث و تكشف لي بعض المعنى و أنا أعيد قراءة الصفحات الملتبسة ... تذكرت يومها كيف كان للكتاب غريب بمحتواه إذ شدني منذ البداية حينما كنت أمضى العطلة في لندن فرأيت يومها سيدة أجنبية تناهز سن الثلاثين ... قد غفت قليلا بالحديقة العامة للميدان .. فوقع نظري على كتاب كانت تحتضنه في صدرها ...... وحينما اقتربت لرؤية عنوان الكتاب .... استفاقت وتلاقت أعيننا ببعض ....ابتسمت بعفوية ومدت لي الكتاب ..بعد أن كتبت شيء في أخر صفحاته .... تذكرتها فأخذت أسترق راحة الكتاب في أنفاسي ... كم كان لغباره رائحة حملت في أنفاسي نشوة لملاقاة تلك المرأة ....وبينما أنا كذلك أذا أتى صوت صفير يصاحبه قهقهات كبيرة ... اعتدلت في جلستي ... واسترددت بعض الثقة في اتزان الذهن عندي .....وأنا أتقمص دور المخبر في تقصي الحقائق .. لم أعثر عن كائن حيّ حولي ... ولكن المكان بدأ ينسحب بضباب كثيف ذات رائحة نتنه .... صوت البومة تعلو حيناً وتتلاشى حيناً أخر ... وسط الظلمة .... والخوف يعم المكان ... تذكرت تلك الحسناء ... وما كتبت في أخر كتابي ... ... .كانت الحكاية تحملني أحيانا إلى العنوان ...... الذي توغل بي في طوارئ الأفكار و تنزعني عن المكان على الرغم من أن الحسرة تتوعدني بالعودة، كلما تذكرت أني لم استطع العودة إلى الكتابة منذ مدة طويلة .. سبحت ابتسامة الظفر وأنا أكتشف مادون في أخر الكتاب ... وما أن فتحته حتى ذهلت .... ما هذا .؟؟؟

قلتها في نفسي بعد أن تلألأت عيناي بخطوط وخربشات في صفحة فهرسه..... عدة توقيعات قد تزاحمت في نهاية صفحته ....حملت معه كل الأمنيات ... أخذت أتأمل كل ما خط ودون به .... و يا للصدمة ...... فالكتاب كان يعني بحق في عنوانه .. عنوانه الذي انتقل بين عدة أشخاص ممن هم على شاكلتي .... فقط على شاكلتي .. ... ولمعشوقة الملايين .. .!!


محل أبو حمــيد

on الأربعاء، 1 يوليو 2009


في منطقة الإحساء وبالقرب من قرى منطقة القطيف .. بإحدى الأحياء القديمة الشعبية والتي ينعدم بها جميع الخدامات المرافقة لها ..فالماء ينقطع دائماً .. ليسلك أهالي الحي بالاصطفاف على طابور الانتظار في أخذ موعد لتعبئة أحدى صهاريج المياه الصالحة للشرب منظر يتكرر باستمرار بإضافة لانعدام الكهرباء الشبه التام وانقطاع الطرق من السفلتة ليصبح المكان وكأنها قرية نامية لم يولد الحياة بها ..اذكر حينها أن أهالي الحي جميعاً يأتون إلى محل أبو حميد والذي يوفر احتياجات البشر بشكل تقريبي وأن كانت الأسعار باهظة الثمن لصعوبة توفر المتطلبات بشكل مستمر ... كان ذلك في اليوم الخامس من شهر ربيع الأول قبل عشرين سنة وربما أكثر .. في ذلك الصباح البارك .. ومازال رائحة الطين تفوح عبق التراث بذلك الحي ..نسيم يترقرق حولها حركة النشاط دائمة من قبل نساء الحي .. كن يتزاورن في الصباح ويتعاون في أعداد طعام الغذاء لضيف قادم .. وما أن ينتهين كل واحدة منهن تأخذ نصيبها وتذهب إلى بيتها .. كنت أذهب مع أمي دائما لا من أجل معاونتها لصاحبة الدار .. وهي كانت زوجة التاجر " أبو حميد " ولكن من أجل أن ألهو مع بنات الجيران واللاتي يتجمعن عند مدخل الدار نلهو كيفما نشاء ونلعب طوال اليوم .. حتى ينتهين أمهاتهن عن العمل فترحل كل واحدة منا مع والدتها . لم أنسى تلك الأيام الماضية . والتي بقيت في ذكرها طوال نفوسنا ... لم تغب لحظة عن فكرنا خصوصاً وإن كبرنا قليلاً فمنعنا عن الذهاب واللعب فكل واحدة منا تلتزم بيت والدها ..حتى تتزوج فبعدما ها لها مطلق الحرية تذهب أم لا ..

فمنعت عن الذهاب وبقيت في منزل والدي أرتب وأغسل وأنظف ما استطعت القيام به .. بينما كان والدي فلاحاً لمزرعة عمدة الحي .. لقد كان ثرياً فكان يعطي لوالدي صاع أو صاعين من التمر حين حصاده وجنيه مع القمح آنذاك ... كان هذا أهم غذاء بالنسبة لنا إلا أن يتصدق علينا أبو حميد ليرسل إلينا بقطع اللحم مع الأرز المتبقية من غذاء الولائم والتي كانت دائما ما يقيمها في منزله ...خصوصاً عند مناسبة حمل زوجته أو إنجابها أو حتى ربحه في تجارته أو بمناسبة عودته من السفر سالماً غانماً ... أذكر أنها كانت دائما ما تنجب له البنات وكان يتضايق من ذلك إذ يرغب في ابن يرفع عنه حمولته ويحيّي اسمه بعد مماته ... وهذا بالتأكيد مالا يكون لدى البنات وفي أحدى الأيام عمت ضجة كبرى في منزلنا إذا تقدم أبو حميد نفسه بذاته ليتزوج بعمتي أخت والدي الصغرى .. حينها لم تتزوج بعد ... فرضت عمتي لطيفة الاقتران به إلا أن ضغط والدي ووالدتي بها اجبرها بالقسوة على الموافقة عليه ... وانقطعت والدتي عن زيادة زوجة أبو حميد الأولى ..أم نورة ..والتي أنجبت له خمس بنات لتبقى باتصال دائما بعمتي لطيفة .. حتى بعد زاوجها به ... وبعد عدة أشهر حملت عمتي بابنها البكر " حميد " والذي أصبح اللقب الذي يعرف به زوجها التاجر ناصر ..لم أنسى ذلك اليوم الذي عم الفرح والسعادة بقدومه في منزل عمتي لدرجة أن أبناء ورجال الحي أتوا مهنئين لأبيه وسادت الذبائح في تلك الأيام بينما انطفئ النور من باب زوجته الأولى " أم نورة " وعمت بأرجاء منزلها الظلام والألم والبكاء ..لم أشاء لنكن نحن سبب لفراق عائلة كاملة ولكن هذا القدر الذي حكم بهم ... لم أنسى امتداد المشاكل والمنازعات بين عائلتنا وبهم .. والتي امتدت لشهور وأيام طويلة ... لم أرغب في أن يكون هنا حالنا ...يشار إليه أصبع الاتهام بعد أن كتب أبو حميد المحل باسم عمتي وابنها فقط دون بقية بناته وزوجته الأولى ... كم كان هذا مؤلما بحق وقاسياً بل أنه الظلم بعينه أن تجني عمتي لطيفة من وراء ابنها ثروة طائلة كبيرة بينما ينحرم منها بنات في حكم الأيتام ... لا يراهن والدهن إلا بالأسبوع مرة واحدة ... وأحياناً يمتد لأكثر ..كم كنت أتألم لحالهن البائسة وتألمهن لوضعهن آنذاك ..وبعد مضي سنوات عدة انقطع إخبارهن عنا .. فلا نعلم أهن على قيد الحياة أم لا ...وقد عاش أبو حميد وعمر ماله ليصبح من أكبر تجار تلك المنطقة في القطيف .. فلم يكن يعترف ببناته السابقات الخمس فكان يعترف ببناته السابقات الخمس فكان يزجر من يناديه أبو نورة ليصرخ أبو نورة ....إلا تفهم يا هذا ..؟؟

هكذا دوماً يرددها ... كان يعتز بأبناءه من عمتي لطيفة والتي قد أنجبت له من بعد " حميد ... خلف ومتعب وأسماء .." فقد أولاهم رعاية ومحبة وحنان متزايد في حين أن بناته الأخريات قد فقدن كل هذا ... ليبقين بجوار والدتهن المغلوبة على أمرها ..يعيشن ما يجدن أمامهن ولا يسألن الناس حاجة قط ..

مضت سنين وأنتقلنا إلى المدينة الدمام واكملت فيها دراستي حتى تخرجت من الكلية وعُينت في أحدى المدراس الثانوية القريبة من منزلنا ... وفي أحدى الأيام كنت أواخر الفترة الدراسية للعام الدراسي ...لم انسى ذلك اليوم .. كان يوم رصد وتصحيح أوراق الأختبارات

الذي قمت بمساعدة زميلتي في رصد الدرجات خصوصاً وأننا قد تعينا في مدرسة واحدة لتعليم البنات ...ذهلت .. وانصدمت عندما وجدت اسم احدى بناته ... زوج عمتي طالبة عند زميلتي هيفاء .. فتوقفت لحظات خلت أنني قد بهت من الاحساسيس والمشاعر فكم من ستوات وأنا في هذه المدرسة ... ولا أعلم عنها شيئاً إلا حينما ستتخرج إلى الجامعة ...كم كان الموقف صعباً للغاية ..شعرت وأنها تتحملني كل يوم من الحقد والكره لأننا قد سلبنا والدهن منهن ... كم كان هذا صعبا للغاية .. شعرت فنظرت إلى زميلتي هيفاء قائلة لي :

سلمى مابك ... هل هناك من شيء ..؟؟

اجبتها بتوتر ملحوظ قائلة :

كلا .. ولكن يشبه هذا الاسم عليّ لفتاة اعرفها منذ فترة !!

ابتسمت وهي تنظر بكشف الدرجات قائلة :

اتقصدين رقية بنت ناصر

نعم هي بذاتها ..؟؟

أنها طالبة هادئة متفوقة مهذبة ..لم أرى مثلها قط ..

ما رايك بحالها .. أهي جيدة ..!!

ربما .. ولكنها دائماً ما تنزوي إلى ركن لتقرأ أو لتكتب شيئاً لا تشارك زميلاتها في الحديث معهن ..!!

لم أقصد هذا .. بل قصدت حالتها الأقتصادية !! ... المادية كيف تجدينها ..؟؟

قلت هذا سريعاً لأتحقق من الامر فأجابت لي ببرودة لم اعتد بها ..:

الواقع أنني لم ألحظ شيئاً كهذا ولكن ربما أنها حالة جيدة مستقرة !!

صمت وأردفت لي قائلة :

دعينا منها ومن هذا كله لنكمل ما تبقى لنا !!

وعدنا لرصد الدرجات ولكنني كنت متيقنة من أنها هي بذاتها فأرجعت الأمر لتشابه الاسم ولكنني وجدت أن المفترض أن يكن لديها أخوات قد درسن هنا أو مازلنا يدرسن فيه .. ولكنني اكتشفت متأخرة إذا كانت الصغرى من هن و الأخريات قد ذهبن إلى الجامعة لاستكمال دراستهن ..حينها أحستت بالألم لتحملهن مرآتي أمامهن وتخيلهن عمتي التي سلبت أباهن منهن .. صمت ومضيت لوحدي أتجرع مرارة الألم والحزن لهن .. لم أكن أتوقع أن الحياة قصيرة إلى هذه الدرجة .. أو تافهة إلى هذا الحد ... ولكنت مكان عمتي ..لقتلت نفسي مليون مرة ... عن إلا أواجه لمثل هذا الموقف ولكن ما ذنبها هي أيضا.. فهي مجبرة به قسراً من والدي لأنه كان صاحب مال كبير وهو بحاجة لمن يخلف له في كل ما جمعه وتعب من أجله ...... مضت بصمت أفكر في حالهن الآن ... كيف يكون وكيف يشعرن بوجود الأب أمامهن صورة دون أحساس أو حياة ....صورة صامتة بقية في أذهانهن منذ الصغر .. هل احتلت اكبر تفكيرهن به أم أنه بقي صورة في أحدى أركان زوايا عقلهن وقد كست بأغبرة الزمان السحيق ...في الواقع لو كنت مكانهن لما علمت بما افعل أو أصنع لأواجه الناس وهم يشيرون بي أن أباهن قد تركهن لوالدتهن الضعيفة من أجل والد ..... وحق له ذلك ولكن أين المشاعر والوفاء والمحبة .... أين مضت ..؟؟



ألدرجة شبه النسيان المتعمد لهن ...لا .... ولن أرضى بهذا لهن ..... ولكن ماذا عساي ان أفعل .....!!



أو حتى ان أصنع شيئا ً ..... وكل شيء كان مقدراً في السابق ..... مضت سنوات حتى وهن وضعف أبو حميد لكبر سنه بينما لمعت أسماء بناته الخمس بقوة ليرتج أصداء المكان بذكرهن ...



أحداهن طبيبة ناجحة لجراحة الأعصاب ..وأخرى مديرة بنك مالي كبير في البلد .... والثالثة موجهة تربوية ... والرابعة سيدة أعمال كثيرة ...أخذت تعمل بالتجارة بأوسع أبوابه أم الخامسة فدائما ما تقام لها معارض لرسوماتها التشكيلية ....بحق لقد ناضلت أمهن ونجحت في تنشئتهن وتربيتهن بحق ..أصبحت في حال يضرب لهن المثل ...والحكم في أروع نماذج الصبر والمثابرة والتحمل والقوة في ظل الضعف والفقر والألم وانعدام الأمان ....بحق كانت تستحق والدتهن الشكر والتقدير لما بذلته من أجلهن .....فتألم أبو حميد عن ملاقاتهم أو العودة إليهم بعد ما صح به ضميره المختنق منذ زمن وبالفعل جبن عن فعل شيء إلا أنه قام بكتابة المحل باسم والدتهن لم تعنت حالته عمتي بل بقيت في حال لا يرثى لها بقيت معه تلازمه مدة مرضه الذي لازمه بضع شهور حتى وافته المنية وترملت عمتي سريعاً وهي في ريعان شبابها ..... كيف لا وهي قد تزوجته منذ الصغر فتركها للفقر والألم مع أبنائها ومضت تطرق أبواب الخير فترة حتى استقبلتها أم نورة بحنان متزايد لعملها بظلم الذي حل بها منذ الصغر واجتمعا في بيت واحد وباعا محل أبو حميد إلى تاجر أخر كان منافسا له منذ القدم ... حينها عاشوا في أحسن حال من التكاتف والتراحم والترابط فيما بينهم ليبقى لي صورة أم نورة وعمتي باقية في نفسي وقلبي ...إذ لم أصدق الترابط التي حصل بينها سريعاً .... وكان شيئاً لم يكن وكأنهن أخوات وأبنائهن واحد لا فرق بينهم اعتراف أنهم وجدوا صعوبة لتقبل هذا الأمر إلا أن في نهاية المطاف يبقون أخوة من أب واحد ...... من عائلة واحدة لرجل واحد .... هو أبو حميد .....



" ...... تمت .........."