قصص قصيرة

أعَطنَي حَريتَي..((ولكَن))..لاَتطلق يَديّه!

زمن الحب

on الأربعاء، 16 سبتمبر 2009



كانت "منيرة" تترقب حركات جدتها بصمت قاتل ... تتطلع إليها حيناً وإلى الجد حيناً أخر .... لحظات مضت .... حتى قررت أن تخاطبها قائلة بود ..:
جدتي .... ماذا لديك ..... ؟؟
تمد الجدة يدها قائلة : تمر سكري يابس يا حُبيبتي ...
تعود لسؤالها بود أكبر .. :
وهل تحبين التمر كثيراً يا جدتي ...!!
يا حُبيبتي التمر غذاء الغني قبل الفقير .... والبيت الذي لا يأكل الطعم فهو خاوي ولا طعام لديه ...
تعود لسؤالها مرة أخرى كأنما تحاول أن تقيس نبض جدتها في حالة مزاجها ....:
جدتي هل كان جدي من يحضر التمر آنذاك .... أم كنتم تزرعونه في زرع البيت ...!!
لا بل كان جدك يزرعه حينما كان في عز شبابه وفتوته ....ولكن الآن فجل ما نحمد الله أنّ أحضره لنا ...
هنا انتهزت الفرصة لتطلق تسأولات كانت في خبايا روحها البسيطة أن تتردد عالقة في نبض قلبها :
جدتي وهل كنتي تحبين التمر أكثر من جدي أم جدي أكثر ...!!
هنا علا على خد جدتها المتجعد بالجلد المترهل حمرة طفيفة وهي تجيبها بحياء لم تستطع إخفاءه :
بل جدك أكثر ....
لماذا ... ( لم تستطع الصبر حتى تكمل جدتها وكأنما تنتظر هذه الإجابة منذ أمد )
لأنه هو من كان يزرع ويجمع لنا التمر ويجلب لنا اللبن والبيض وطحين الخبر ..
اها .... ولكنك يا جدتي لم تقولي لي هل ما زلتي تحبينه حتى الآن ...!!
نعم يا حُبيبتي ... فهو أبو عيالي .... وأبو أباك... يا ُمنيّر ...!!
ولكن جدي لم يقل هذا عنك ...
جدك ..!!!!
نعم جدي ... لقد سألته فلم يقل انك أم عياله ولم يقل أنه يحبك ...
إذن ماذا قال لك .....؟؟
لقد قال أحب كحلها و رائحة عطرها و طبخها.... المجبوس ... والكبسة .. والجريش .. والقرصان .. ذالك ما ذكره لي ...
ضحكت جدتها هنا حتى برزت أخر أسنانها العريضة ...ثم قالت بضحكة هادئة لم تستطع إخفاءه :
هم الرجال هكذا ... دائما ما يهمهم الأكل ثم الأكل ...حتى أخر العمر .. وهذا جدك أولهم ..


حينها جلست بقرب جدتها وهي تتطلع إليها بعينين برئتين ... ولكن هل كان في قريتكم حب يا جدتي ...!!
نعم كل النساء يحببن أولادهن وأعمالهن المنزلية البسيطة والتي لا تكد تخلو من رائحة البخور والعطر و الهيل والزعفران ...
جدتي هل كان النساء يحببن الرجال ... !!
ضحكت الجدة حينئذ من سؤالها حتى قالت بنظرة مليئة بالحنان وتمنياً لها بالسعادة :
يا حُبيبتي .... النساء حينما يحببن لا يقلن ... بل يظهر حبهن في أفعالهن ...!!
وكيف ذلك يا جدتي .....!!
( لم يمضى ثانية على قولها حتى سمعت نداء أمها لها فهرعت إليها مسرعة وبعد لحظات عادت ومعها صينية خبر ساخن قد خبر للتو .... يفوح منه رائحة السمن والحبة السوداء ...قدمت لها الطبق مع جدها الذي اخذ يستمع إلى المذياع الخشبي القديم ( الراديو ) ... لاصق إذنه به مطربا لسماع أغنية قديمة لأم كلثوم ...... ومتمايلا بإيقاع كلمات أغنيتها الرقيقة ذات الصوت الأنثوي الباكي .... اقتربت " منيرة" من جدتها لتحاول استكمال حديثهما منذ زمن .... مردفة بهدوء :
جدتي ... أخبرني كيف النساء يحببن ...!! أنني أتسال هل كنّ يلبسن الحلي مثلاُ .. أم يقصصن شعورهنّ ..ويصبغنه بالألوان....
كلا يا حُبيبتي ... لم نكن نقص شعورنا مثل الآن .... بل كنّ نتنافس في تطويل الشعور وصبغه بالحناء ... فكن البنات يخطبن لطول شعورهن وسواد لونه ... وكن يصبغن أيديهن وشعورهن بالحناء دائما لعبق رائحته الزكية ... والمحببة في نفوسنا ... وكنّا نلبس الذهب الذي يكسونّا ..والذهب يا" منيرة " كلما كان كثيراً دل على غنّى وعّز أهلها ... أو أهل زوجها...
طالت فترة " منيرة" وهي تتسأل عن أحوال النساء في الماضي ... وكيف كان حبهن ... أسئلة ليست غريبة على الجدة ولكن الجدة تفهم من حفيدتها بأنها تسال وفي نفسها غاية إن تصل إلى هدفها .... لتجمع معلومات من جدتها بطريقة غير مباشره .... كيف تتقرب من حبيبها .... وماذا تفعل لتتكلم معه ...... أنها تحبه وتعشقه فمن يوصل رسالتها له
" منيرة " أعادة ذاكرة جدتها للوراء قبل أربعين سنة وتقول هل أحببتي جدي قبل الزواج وكيف تعرفني عليه ... وهل كانوا أهلك يعلمون أم كان حبكما في خفاء ... !!
حينها قاطع حديثهم صوت جهوري قاسي ... التفت " منيرة " نحوه بصمت ورغبة في معرفة الأمر منه ... اقتربت منه بود وبشقاوة طفولية محببة ... قائلة له بعذوبة :
أخبرني يا جديّ .. أخبرني ....كيف خطبت جدتي ...وكيف اخترتها من بين بنات القرية ........ وكيف علمت بأنها تحبك ..!!

هنا نظر إليها جدها ضاحكاً وهو يجيب لها بصوته الجهوري :
يا منيرة في زمننا لم نكن نعرف الحب إلا بعد الزواج ... كان الرجل يحب أهل بيته وأبناءه وقريته ... كان الحنين يجبرنا على العودة إلى القرية أن رحلنا زمنا عنه ... حتى الآن أرغب في أن أعود لها ....... وردد لها بصوته " إلا ليت الشباب يعود يوماً "
قالها وهو يهُم بالخروج من المجلس نحو الباب حاملاً معه مذياعه القديم الخشبي بطرازه التقليدي العتيق ..... نظرت نحو جدتها وأردفت لها بود ودلال :
جدتي .... أحكي لي كيف كن صباك ..... هل كان في حياتك حب غير جدي ... أعلم أنه ابن العم ولكن ربما كان لديكم شاب بارز سمعته تهوى البنات لسماع أسمه ....
يا حُبيبيتي ..... لم يكن لدينا من ذلك الحب قديماً .... بل كانت البنت تسمى لابن عمها منذ ولادتها ........ فتعيش على اسمه وتتربى لتؤهل أن تكون أم أبناءه ....... فلم يكن لدينا مجال لاختيار أو الحب على هواء العذارى .......
حسناً جدتي لا فائدة ..... من كل هذه الحديث .... أود ان أعرف شيء واحد هل علم جدي بأنك تحبينه قبل الزواج أم بعد زواجكما ........!!
لا قبل الزواج يا منيرة .... كنت أحبه ...
جدتي هل أعطيتيه ورقة وصفت فيها مشاعرك العاطفية وعن أحاسيسك تجاه ...!!
أعوذ بالله أهلي كان قطعوني لو قمت بهذه العمل ...
طيب جدتي أعطيتيه رقم تلفونك
كيف ..... !!! " قالتها بدهشة ثم أردفت لها بحزم " : ما كان في زمننا هاتف ....أو حتى مراسيل
جدتي سؤال أخير قالتها بعد أن رأت جدتها منهمكة في نخل الطحين " الدقيق " : هل ذهبتي معه إلى الحدائق العامة أو تصادفتما بالسوق أو في بيتكم ...
لا لا لا ممنوع ..... على البنات فعل ذلك ......... لم نكن نخرج ولا نتقابل لا مع أبن العم ولا غيره
جدتي ماذا فعلتي هل ظل الحب في نفسك مكبوتاً في ذاتك مقيد بالتقاليد البيئة .... فكيف تزوجتي بجدي هل رأكِ قبل الزواج أم بعد ...!!
كان في زمننا أمه أو أخته من تأتي لرؤية العروسة أولاً ثم الرجال يأتون لخطبتها من أهلها ...
ولكن بحكم أننا قربى فلم يكن الحاجة لرؤيتهم لي بل تم الخطبة في أسبوع وبعدها تم الأعداد لمراسيم الزواج بأقل من شهر ....
بدون أن يراك يا جدتي
يكفي أن أباه هو عمي وأمه هي خالتي وعمتي ....
جدتي هل كنت تسترقين النظر إليه من خلف الباب بدون أن يراك ....
يا حُبيبتي ...ممنوع هذا طبعاً ...... في زمننا كان هناك اعتقاد سائد بين نساء القرية ورجالها ..... هو أن تظل البنت بدون رؤية العريس وهو كذلك حتى لا يضرهما شيء ..... ولا يحدث رفض من قبلهما ...
شهقت حينها منيرة وهي تجيبها بتعجب .... :
جدتي هل كان جدي وسيماُ ..........
علت ضحكت مجلجلة حتى برزت أخر أسنانها العريضة وهي تقول :
ألا ترينه وسيماً حتى في كبره ...
ابتسمت منيرة برقة متأملة لمحة جميلة لمعت في أطراف عيني جدتها ...شعرت حينها أن الحب لم يكن مثلما هو الآن .......... الحب الذي كان في زمنه أقوى ... وعشاقه أكثر وفاءاً وإخلاصا ... ذلك الحب الحقيقي بتضحياته الكبيرة ........ والذي كانت تتسأل عنه ......... لأول مرة تشعر منيرة أن الحب يكمن في المعاملة وليس بالكلام فقط ....... الحب الذي يحفظ روح حبيبه إلى أخر رمق ......... هذا هو الحب ........ الحب الذي وجدته منيرة ولمحت ذلك في كلمات الحب الذي كان يرددها جدها مع أغنية أم كلثوم ....... ويترنم عشقا مع نسمات عطر جدتها الحنونة ..... وجدت الحب الذي طالما رأته في عيني أمها ومع ضحكات جدتها العامرة بالدفء والحنان والحب الخالد إلى الأبد.........
" .......... تمت ....."

سجاد أمي







أخذت أنفض المجلس بعد أن ذهب ضيوف والدي ... حملت معي السفرة وبعض كأسات العصير والتي صبغت بدهن اللحم في حوافها .... ما كان بوسعي غير إن أردد :
دائما الرجال مقرفين ....يتركون أوساخهم أينما كانوا...
وبينما أنا أسير إذ سقط أحدى الكأسات ...وطش ربع ما فيه على سجادة المدخل .... أدركت أنني وقعت في ورطة ... يا ويلي ... هذه ليست أي سجادة ... هذه سجادة والدتي الغالية ... ماذا فعلت قلت هذا مذعورة أن تراني ... فأسرعت نحو المطبخ أضع ما بيدي .. وخطفت بدون أن تنتبه والدتي منشفة كانت على طرف الطاولة ... أخذت أغسل وأنظف بقعة العصير التي طبعت لوناً زهرياً باهتاً على نقوشها ... أحسست أنني سأوجه مشكلة مستعصية لا قرار فيه .. لذا أسرعت نحوها أخبرها بطبيعتي الخائفة .... بكذبة صغيرة ......بعد أن نسجت منها قصة من عندي .... لحظات حتى انفجرت غضبا وأخذت تلعن حظه .... وهي تشتمه ... بقيت في ذهول... وأنا أحمد الله في نفسي أن أسعفتها من ضرب وشتم محقق ...وحينما عاد والدي بعد أن ودع ضيوفه الكرام عند الباب ...حتى أسرع بمناداة والدتي ... هرعت إليه بتعجب .... فلم يسبق أن فعل ذلك مسبقاً ... هرعت متسألة لما يحدث ....خشيت أن تخبره عما حصل لسجادتها الحبيبية إلى قلبها ...لذا أثرت الاختباء قرب الباب لأستمع ما يدور بينهما .... حينها علت علامات الدهشة على محياي ... أكان ما أسمعه حقيقة أم لا .... لقد أخبرها والدي بأن أحد ضيوفه قد أطلعه على ابن عمه الأعمى ... والذي يرغب بالزواج من بنات أحد الأسر وقد وقع اختياره بابنتنا لأبن عمه ... أخذت أمي تترد بقولها :
ولكن ... ولكن ...
فأجابها بفرح ... لم أعهده منه من قبل :
أنه يمتلك ثروة تقدر بـثلاثة ملايين ريال ... أتودين أن نبقى في عجزنا وفقرنا هذه ...نخشى إن ينتهي العام ولم نجمع مبلغ الإيجار ... أتودين أن ترين عجزي خلال الأعوام القادمة وتقاعدي عن العمل لنهاية هذا العام ... إن حالتنا سوف تزداد سوء عن كل يوم ... لو كان لدي والد لأعدت التفكير بالأمر.. ولكن ليس لدينا سوها ... هي ابنتنا الوحيدة ... لا تنسين أنها قد قاربت على سن الزواج ... ولم يتقدم احد من أبناء أخوالها أو من أبناء عمومتها ... أتعلمين لماذا .... لأنها لا تتمتع بالجمال كبنات خالاتها أو من بنات عماتها.
ما الذي تقوله ... ابنتك مازالت صغيرة ... وهي جميلة ولكن من سيقدرها ...؟؟.
لا تخشي شيئاً ... سنكون بخير أن تم زواجها منه ... لا تنسي أنه أعمى ... فلن يهتم بكونها جميلة أم بسيطة ....
دمعت عيناي لحظتها وأنا اسحب نفسي إلى المطبخ أردد في نفسي" ... أعمى ... أأتزوج بأعمى .... يا ويلي ...سأطعمه لأنه لا يرى ... سألبسه ..لا أنه لا يرى ... سأغسله لأنه لا يرى ...أذن كيف سنعيش معاً ... كيف ...سنعيش .... كيف..!!"
تناهى إلى مسمعي وقع أقدام تقترب فأخذت بحمل الطبق وغسله .. لأجد والدتي ترتبت على كتفاي قائلة بطيبة نابعة من القلب :
الله يعطيك العافية عزيزتي ... ويطيل بعمري كي أراك عروسة في بيت زوجك سعيدة ومرتاحة فيه ....
صمت ولم أرد بشيء ... مضى الليل على خير ما يرام ... وبعد أسبوع ... صحوت في الصبح باكراً ..... على ضرب أمي لسجادتها الحبيبة ....نزلت لأراها ...فإذا هي تبكي .... هتفت بخوف لم استطع كتمانه من أنفاسي :
أمي ...أمي ..ما بك .. ماذا حصل ... لما تبكين ..!!
نظرت إلي بألم ولم ترد بشيء ... زاد المخاوف في نفسي وأنا أهزها بيدي قائلة بخوف أكبر :
أمي ماذا حدث ...أ أبي بخير....!!!
فسحبت نفسها لتجلس بأقرب قطعة مرتفعة عن الأرض حتى قالت ...:
أباك بخير ....ولكنه تقاعد عن العمل ...وحالتنا صعبة فلم يجد أباك المبلغ الكافي لتسديد إيجار المنزل.... وأن لم يسدد فسيسجن ...!!
لا أعلم لماذا شعرت حينها بأنها مسرحية حبكتها والدتها بالاتفاق مع والدي ... لذا أجبتها بعد إن أبعدت عنها قليلاً :
أكل هذا من أجل إن أتزوج بالأعمى... !!
تطلعت لحظتها والدتي .. حتى نهضت نحوي قائلة ... :
ما لذي تقولينه ...أي أعمى هذا ..؟؟
نظرت في إزاء مرددة في نفسي " مسرحية جيدة يا أمي ..." فأجبتها بثقة :
أوهناك أعمى أخر ...!!!
لم أستوعب ما حصل سوى أنني حصلت على صفعة قوية على نصف وجهي ... شعرت حينها بألم بالغ ... وتخدر في خدي الأيسر ... نزلت دمعتي سريعا على غير عادتي ... أحسست بأنني أخطت بحقها كثيراً ... نظرت إليّ قائلة :
أو تعتقدين أننا سنزوجك من اجل المال ..
لقد تشاورنا في تلك الليلة حتى بزغ الفجر ... فكر أباك مليا ... ولكن قلبه لم يطاوعه إن يزوجك إياه ... مع انه واقع في مشكلة ...إلا انه رفض تزويجك إياه ... رغبة منه أن تتزوجي بشاب رائع يسعى لإسعادك حتى أخر لحظة في عمرك ... أولا تخجلين من التفكير بنا على هذا النحو ...!!
لم أكد استوعب لما حصل منذ قليل إلا بعدما دخلت أمي نحو حجرتها لتخرج مصوغاتها الذهبية بعلبة سوداء مخملية ... أخذت أتطلع عليها باستفهام وتعجب حتى أردفت لي :
حتى ذهبي لم يوافق على بيعه لحل وإنهاء مشكلتنا ... لقد أبقاه لي قائلا بحب كبير ... " هذه هدية زواجنا ولن أبيعه حتى لو اضطررت لدخول السجن .. فأنا الرجل مادمت على قيد الحياة ... سأعمل حتى لو كلفني الأمر صحتي ولكن لن أخذ شعرة منك ولا من أبنتك ....لن أخذ منكما شيء ... فجّل سعادتي هي سعادتكما ..
نظرت لها بعد إن دخلت حجرتها وأغلقت الباب بقوة ...لحظات صمت مضت وأنا لم أدرك ما الذي يحدث ... بقيت في حالة الشك والتصديق ... هل ما حصل هو مسرحية الواقع ...أم أنني مازلت احلم ... ما الذي يجري هنا ... ...أيسجن أبي حقاً ... أم أن أمي تحرك عواطفي لموافقة ...ولكنها لم تذكر عن الزواج ... هل أنا أحلم أم أن مسرحية سخرية القدر قد عرضت لي ....تأملت ساعة الجدار بعد أن ضرب جرسه الضعيف بألم وبصوت متقطع ....أنها الساعة الحادية والعشر صباحاً نظرت نحو نافذتي لأجد سجادة أمي معلقا يتطاير أطراف شعيراته برفق ... حرك ذلك في نفسي أحساس هادئ وراحة لا اعلم من أين أتت ....نهضت نحو سجادتها بعد إن أغمضت عيناي بلذة الإحساس أسحب كل مشاعري بأطراف أناملي لأتلمس خيوطه المتطايرة ... أمتزج خيوطه الرقيقة بأناملي النحيلة ... شعور غريب ... تملكني .... وخفة روح لأول مرة شعرت فيه يومها ..

" ....... تمت ....."

موت الحلم

on الثلاثاء، 15 سبتمبر 2009








كانت تسترق السمع إليهما بصمت ... ودموع عينها تسابقها في المشاركة الودية لحديثهما الخافي .... لم تعلم من منهما كانَ وَقْع كلامِه عليها أقوى ..... هوَ أم هيَ .... ولكنها أقرت شهقتها في رد قرارهما المفاجئ والصارم لها ... كتمت صرخة كادت أن تفلت من بين ضلعيها رفضا .... حينما ردد بكل حزم : الزواج هوَ الحل؛ ولن ندعها تحلم كالمراهقات الصغيرات .. قصص الأميرة النائمة .... أو قصة سندريلا ...... يجب أن تدرك أن كل هذه القصص لا تمت للواقع بصلة.أتعرف عزيزي ...... ؛ لا أعلم إن كنتُ غبية أم لا ...... ولكن إلا ترى الجدار الفاصل .... ؛ لا أعلم لِمَ كلما أراهُ أضحك..
) أشتط غضبا لقولها وأجابها في حدة لا تخلو من أنفاسه الغاضبة )
أنا أحدثكِ عنها وأنت تتحدثين عن الجدار .... ؛ فكري معي وانسي ذلكَ الجدار اللعين .
أردفت قائلة غير مبالية لثورة الغضب التي أعلت سطح عيناه :
يمكن بسهولة إزالته ... ، الجسور تفصل البلدان لتوضح لكل منا حدوده ؛ و شقيقتكِ يجب أن تتزوج لمن اخترناه لها لنزيل الحدود الوهمية وبصمة الفقر هذه على حياتنا الرتيبة ... دعنا نعيش ونحلم في الحياة القادمة .... حياتنا التي رهن حياتها ... ولكن حينما تتزوج شقيقتك بأبي فيصل ..فقط خلال سنة أما أن ننتقل إلى حياتها محفورة بالثراء ... أو أن تنقل هي حياتنا إلى مستودع أشبه بظلمة الفقر والسود ... لو وافقت شقيقتك ... نوير ... لو رضخت لأمرنا .....وتزوجت به .... وبعد سنة تلد له الابن الوحيد له .... بدلاً عن أبنه الذي توفى .. ... يا لله سوف تبتسم الحياة لنا بطولها وعرضها ... صدقيني لم يعد هنا مجال لأي قضاء وقدر ... لا مجال ... لا مجال أبداً ..تطلعت بعينها نحو الباب المجاور لها ... الباب الذي شهد أخر لحظات والدتها قبل رحيلها ... تقدمت ببطء نحو مقبض الباب ... تلمست بأناملها ... في رجفة ولوعة ... أدارته لتجد أن الصمت قد سكن حجرتها .. في ألم ... وأن الظلمة قد حاطت أشرعها على جدرانه الواهنة ... وأن كان هناك بصيص من الضوء الخافت الذي يسطع من نافذة حجرتها نحو ضريحها الخاوي ... تقدمت بضع خطوات نحو معالم سجادتها وسبحتها الكبيرة .. والتي كانت بجوار مصحفها الكبير ذات الخطوط العريضة ... تأملت موضع بساطها الهزيل ... دفنت وجهها الذي غسلتها دموعها الحارقة .....تلمست لأبعد أطراف سجادتها الوثيرة ... شدته بقوة نحو وجهها الرقيق لتدفن نصفه بشفتيها ... تعض فيه ويلات الظلم الذي سيزفها طيلة حياتها القادمة .... بكت بعمق .. كما لم تبكِ من قبل ...أدركت ان حياتها قد حانت ساعة الحلم الجميل منه ... للرحيل ... أدركت أن حياتنا على هامش المغريات سيقام قصره الكبير ... وتتلألأ أحلامها على قبور غطت أغبرته مئات السنين .... وستطرب لنحيب أنفاسها على مذاق الشهد اللاذع ... والذي لا زالَ يداعب خيالها الرقص مع فارس أحلامها على ضوء شموع تحتضر ..... وفارس غطى ظهر دماء الشوق لها ..... و قبلة منه على أناملها الناعمة ووعد بأمسية جديدة شاعرية في حياة أخرى .... وعالم ثانِ .....تصورت حياتها ... أنها انتهت إلى هذه الحد .... وهي ترأ أروع أوراقة بأحرف يداعب خيالها يتطاير ويتلاشى بصمت مخيف ... يصارع الموج النائم بالليل ...محلقاً أمام واقعها ... ليرتطم في أخر الأفق صخور الحياة القاسية ... بفقره ...وألمه ...مدت يدها بلا شعور .... تتلامس الاموجود بعالمها .... نظرت إلى يدها المحلقة بالهواء بخيبة أمل ... تأملت أناملها من وسط دموعها ... لتنظر بتركيز فارغ وضياع الإحساس منه ....... فلم يعد هناك حلم .... لتتشبث به .... ولا أمل لتتعلق فيه .... حطمت زجاج الباب الخارجي بقبضةِ يدها القاسية ..... وصرخت بأعلى صوتها ؛ لم تبالِ حينَ اهتزت الجدران ولا حينَ غادرت البيت ...... تتحدى ظلم الحياة ... وقسوة قلب محبيها ....لتقف وحيدة تصارع البرد القارص والعاصفة الترابية التي هبت في تلك الليلة ......وفي أخر أفق محيطها السوداوي .... وببصيص الأمل ...... شعرت بأن روحها المتعبة لامست أحلامها الراحلة ببطء ... فرفعت يديها إلى السماء وأطلقت صيحة فرحة مخنوقة .... ثمَ اختفت مخلفةً وراءها ماضٍ لم يحدث قط وحاضرا لا يماثله ظل مع السراب.
" ............... تمت ........."

مذكرات طالب كسول

on الخميس، 3 سبتمبر 2009


بسرعة فهمت أن لا علاقة لي بذاك الفتى الذي قرأت عنه في الفصل الجديد .. ذالك الفتى المهذب النشيط الذي يستيقظ باكرا ويغسل وجهه وأسنانه ويلبس قميصه وبنطاله بشكل أنيق ... ثم يغادر المدرسة بعد أن يتناول وجبة فطوره الخاصة من رقائق الذرة الهشة والتي تعده والدته الرقيقة ….هكذا ما وصلني همسا من أحد تلاميذ الفصل أو ربما خيل لي ذلك ...


وفي الصباح اليوم التالي ...أستيقظ وفراشي مبلل بسبب أمطار لا علاقة لها بالسماء ، حينما أفعلها أحاول طمس الحادث وذلك بقلب الفراش .... متخفيا بالذهاب إلى المدرسة... خشية أن تلاحقني نوبات الغضب من والدتي .. أو قرصه حارة من أطراف أناملها النحيلة على أذناي .. مضى اليوم دون أن تذكر والدتي لحادثة الصبح ...


وفي الليل سررت كثيراً بوجود أبناء خالتي " أحمد وهمام " أذكر أنني لعبت حتى وقعت من الإعياء ... لم نترك زاوية في البيت إلا ولعبنا فيه لعبة سبورة وقلم ...وفي المطبخ ...لعبة قذف الصحون البلاستيكية ... وبدورة المياه .. لعبة رش الماء ... أذكر يومها أبي لم يكتف بالشجار مع والدتي حتى أخر الليل .. ولو أنني دفنت رأسي تحت وسادتي .... إلا أن ضرب الباب من قبل والدي حينما خرج أحدث دوي هائل بين جداران منزلنا .. خشيت تأتي إلي أمي وأن تفجر قنبلة الغضب علي .. لذا أثرت النوم حقيقة على أن أمثل كما في كل مرة ..بعد أن سمعت وقع أقدامها تتوجه نحو حجرتي ..


وفي اليوم التالي ... نهضت من فراشي .. و قفزت نحو مرآتي لأكتشف معالم ليلة أمس ... لم يحدث شيئاً ... فتناهي إلى مسمعي صراخ والدتي :
فيصل فطورك جاهز .. سأذهب لأستحم الآن إياك لو تأخرت عن المدرسة ...


وما أن سمعت قولها حتى أسرعت نحو المطبخ وقلبي الصغير ينبض بقوة خشية أن أتأخر فعلا ... سحبت أقرب مقعد لأتناول فطوري الكبير المكون من كأس شاي وخبز وجبنه بيضاء مالحة مع حبيبات الزيتون ، تذكرت أني يوم أمس لم أحفظ جدول الضرب ،ومجرد هذا الاسم يوحي بالعصا أكثر ما يوحي لي بمادة الرياضيات ….


خرجت من المنزل في اتجاه المدرسة ....وكالعادة حينما لا أكون بمزاجي يكون نصيب أي قط ألتقية هو الرجم بالحجارة … أو الركل أحياناً ...لا أعلم لماذا كلما اقتربت من المدرسة ارتفع معدل نبض قلبي الصغير ، طالما تساءلت دوماً عن سر عدم وجود معلم طيب ...بالمدرسة .... ولما تيقنت أنه أمر مستحيل .... دعوت الله أن يموت المعلم أو أن يضرب زلزال مدرستنا ....وأثناء سيري وأنا اركل الحجر والعلب الفارغة بالطريق التقيت بهمام ابن خالتي زال خوفي ....حينها ... وسررت لتواجده ... وقبل أن أحدثه ، سألني :
هل حفظت جدول الضرب والقرآن هذه المرة ؟.

يا ويلي ..لم أعد أشك في أن هذا اليوم سيكون يومي حافل بامتياز .


وصلنا ولجنّا القاعة ثم دخل المعلم فعم الصمت .... لحظتها ... لم تعد لي رغبة في لعب دور المهرج والمضحك فقد بدا المعلم مخيفا كالشبح . ... يبدو أنه قد تشاجر مع زوجته يوم أمس كوالدي ....لمحت من بين يديه حزام بنطاله ... أدرك تماماً ما معنى هذا فمازال ظهري يشهد خط حتى هذه اللحظة .. سر بقربي وأنا أحاول أن أبدو واثقاً بعض الشيء .....ابتعد قليلاً ... و أخذ يمر بين الصفوف .... رائحة عطره وصوت حذائه يزيدان من رعبه.... فجأة أتى الحارس .... طالبا المعلم فذهب إليه ....وتحدثا أمام الباب .... يا الله .. تمنيت أن يكون أمر هاما من سعادة المدير ... ودعوت في قلبي أن يعتذر عن هذه الحصة ... ولكن ... علت ضحكه من خارج الفصل ... نعم ... رأيته يضحك ويربت على كتف الحارس .... يا الله .... مؤشر جيد ........ لاشك أن مزاجه جيد هذا اليوم .....لكن ما إن تودعا ،

حتى دخل بنظرات تشتعل فيها النيران ....

-هل أنجزتم واجباتكم ؟


أجبت مع الجميع بكلمة ليست بلا ولا بنعم : بـ.. بـ.. ن..عم ..


لاأخذنا نمر إلى السبورة تباعا لاستظهار ما حفظناه .... وفي كل مرة ينتهي فيها دور أحدهم أنظر إلى المعلم بثقة .....وكأنني حفظت كل شيء ومتشوق للإستظهار .لكن لعبتي الصغيرة لم تعمر طويلا ....فقد مر الوقت بسرعة فجاء دوري وسقط القناع .....


وقفت أمام السبورة وأخذت أنظر إلى الأرض وساقاي ترتجفان ...لم أكن أفكر في أي شيء آخر ..... غير عدد الضربات التي سأتلقاها وأنا أنظر برعب وخوف إلى يده التي غرسها في نص حزامه ... وأملت أن لا يمسكني من أذني ثانية فهما كبيرتان بما فيه الكفاية .... مددت يدي لعصا المعلم التي لا ترحم ... وأخذت أنظر إلى التلاميذ بين مستهزئ مني ومشفق علي..

لم أنسى وجبة العقاب في الأسبوع الماضي ... ولا زلت اشعر بيدي وكأنهما تنبضان حمرة وألماً ...... .لكني أحسست بسعادة كبيرة عندما علا رنين الجرس معلنا انتهاء الحصة ... لم أنسى ذلك اليوم كم كانت سعادتي غامرة ... حمدت الله كثيراً ... ولكنني يومها قد حصلت على عقاب آخر حتى أخر الليل ...

" .... تمت ...."