قصص قصيرة

أعَطنَي حَريتَي..((ولكَن))..لاَتطلق يَديّه!

زمن الحب

on الأربعاء، 16 سبتمبر 2009



كانت "منيرة" تترقب حركات جدتها بصمت قاتل ... تتطلع إليها حيناً وإلى الجد حيناً أخر .... لحظات مضت .... حتى قررت أن تخاطبها قائلة بود ..:
جدتي .... ماذا لديك ..... ؟؟
تمد الجدة يدها قائلة : تمر سكري يابس يا حُبيبتي ...
تعود لسؤالها بود أكبر .. :
وهل تحبين التمر كثيراً يا جدتي ...!!
يا حُبيبتي التمر غذاء الغني قبل الفقير .... والبيت الذي لا يأكل الطعم فهو خاوي ولا طعام لديه ...
تعود لسؤالها مرة أخرى كأنما تحاول أن تقيس نبض جدتها في حالة مزاجها ....:
جدتي هل كان جدي من يحضر التمر آنذاك .... أم كنتم تزرعونه في زرع البيت ...!!
لا بل كان جدك يزرعه حينما كان في عز شبابه وفتوته ....ولكن الآن فجل ما نحمد الله أنّ أحضره لنا ...
هنا انتهزت الفرصة لتطلق تسأولات كانت في خبايا روحها البسيطة أن تتردد عالقة في نبض قلبها :
جدتي وهل كنتي تحبين التمر أكثر من جدي أم جدي أكثر ...!!
هنا علا على خد جدتها المتجعد بالجلد المترهل حمرة طفيفة وهي تجيبها بحياء لم تستطع إخفاءه :
بل جدك أكثر ....
لماذا ... ( لم تستطع الصبر حتى تكمل جدتها وكأنما تنتظر هذه الإجابة منذ أمد )
لأنه هو من كان يزرع ويجمع لنا التمر ويجلب لنا اللبن والبيض وطحين الخبر ..
اها .... ولكنك يا جدتي لم تقولي لي هل ما زلتي تحبينه حتى الآن ...!!
نعم يا حُبيبتي ... فهو أبو عيالي .... وأبو أباك... يا ُمنيّر ...!!
ولكن جدي لم يقل هذا عنك ...
جدك ..!!!!
نعم جدي ... لقد سألته فلم يقل انك أم عياله ولم يقل أنه يحبك ...
إذن ماذا قال لك .....؟؟
لقد قال أحب كحلها و رائحة عطرها و طبخها.... المجبوس ... والكبسة .. والجريش .. والقرصان .. ذالك ما ذكره لي ...
ضحكت جدتها هنا حتى برزت أخر أسنانها العريضة ...ثم قالت بضحكة هادئة لم تستطع إخفاءه :
هم الرجال هكذا ... دائما ما يهمهم الأكل ثم الأكل ...حتى أخر العمر .. وهذا جدك أولهم ..


حينها جلست بقرب جدتها وهي تتطلع إليها بعينين برئتين ... ولكن هل كان في قريتكم حب يا جدتي ...!!
نعم كل النساء يحببن أولادهن وأعمالهن المنزلية البسيطة والتي لا تكد تخلو من رائحة البخور والعطر و الهيل والزعفران ...
جدتي هل كان النساء يحببن الرجال ... !!
ضحكت الجدة حينئذ من سؤالها حتى قالت بنظرة مليئة بالحنان وتمنياً لها بالسعادة :
يا حُبيبتي .... النساء حينما يحببن لا يقلن ... بل يظهر حبهن في أفعالهن ...!!
وكيف ذلك يا جدتي .....!!
( لم يمضى ثانية على قولها حتى سمعت نداء أمها لها فهرعت إليها مسرعة وبعد لحظات عادت ومعها صينية خبر ساخن قد خبر للتو .... يفوح منه رائحة السمن والحبة السوداء ...قدمت لها الطبق مع جدها الذي اخذ يستمع إلى المذياع الخشبي القديم ( الراديو ) ... لاصق إذنه به مطربا لسماع أغنية قديمة لأم كلثوم ...... ومتمايلا بإيقاع كلمات أغنيتها الرقيقة ذات الصوت الأنثوي الباكي .... اقتربت " منيرة" من جدتها لتحاول استكمال حديثهما منذ زمن .... مردفة بهدوء :
جدتي ... أخبرني كيف النساء يحببن ...!! أنني أتسال هل كنّ يلبسن الحلي مثلاُ .. أم يقصصن شعورهنّ ..ويصبغنه بالألوان....
كلا يا حُبيبتي ... لم نكن نقص شعورنا مثل الآن .... بل كنّ نتنافس في تطويل الشعور وصبغه بالحناء ... فكن البنات يخطبن لطول شعورهن وسواد لونه ... وكن يصبغن أيديهن وشعورهن بالحناء دائما لعبق رائحته الزكية ... والمحببة في نفوسنا ... وكنّا نلبس الذهب الذي يكسونّا ..والذهب يا" منيرة " كلما كان كثيراً دل على غنّى وعّز أهلها ... أو أهل زوجها...
طالت فترة " منيرة" وهي تتسأل عن أحوال النساء في الماضي ... وكيف كان حبهن ... أسئلة ليست غريبة على الجدة ولكن الجدة تفهم من حفيدتها بأنها تسال وفي نفسها غاية إن تصل إلى هدفها .... لتجمع معلومات من جدتها بطريقة غير مباشره .... كيف تتقرب من حبيبها .... وماذا تفعل لتتكلم معه ...... أنها تحبه وتعشقه فمن يوصل رسالتها له
" منيرة " أعادة ذاكرة جدتها للوراء قبل أربعين سنة وتقول هل أحببتي جدي قبل الزواج وكيف تعرفني عليه ... وهل كانوا أهلك يعلمون أم كان حبكما في خفاء ... !!
حينها قاطع حديثهم صوت جهوري قاسي ... التفت " منيرة " نحوه بصمت ورغبة في معرفة الأمر منه ... اقتربت منه بود وبشقاوة طفولية محببة ... قائلة له بعذوبة :
أخبرني يا جديّ .. أخبرني ....كيف خطبت جدتي ...وكيف اخترتها من بين بنات القرية ........ وكيف علمت بأنها تحبك ..!!

هنا نظر إليها جدها ضاحكاً وهو يجيب لها بصوته الجهوري :
يا منيرة في زمننا لم نكن نعرف الحب إلا بعد الزواج ... كان الرجل يحب أهل بيته وأبناءه وقريته ... كان الحنين يجبرنا على العودة إلى القرية أن رحلنا زمنا عنه ... حتى الآن أرغب في أن أعود لها ....... وردد لها بصوته " إلا ليت الشباب يعود يوماً "
قالها وهو يهُم بالخروج من المجلس نحو الباب حاملاً معه مذياعه القديم الخشبي بطرازه التقليدي العتيق ..... نظرت نحو جدتها وأردفت لها بود ودلال :
جدتي .... أحكي لي كيف كن صباك ..... هل كان في حياتك حب غير جدي ... أعلم أنه ابن العم ولكن ربما كان لديكم شاب بارز سمعته تهوى البنات لسماع أسمه ....
يا حُبيبيتي ..... لم يكن لدينا من ذلك الحب قديماً .... بل كانت البنت تسمى لابن عمها منذ ولادتها ........ فتعيش على اسمه وتتربى لتؤهل أن تكون أم أبناءه ....... فلم يكن لدينا مجال لاختيار أو الحب على هواء العذارى .......
حسناً جدتي لا فائدة ..... من كل هذه الحديث .... أود ان أعرف شيء واحد هل علم جدي بأنك تحبينه قبل الزواج أم بعد زواجكما ........!!
لا قبل الزواج يا منيرة .... كنت أحبه ...
جدتي هل أعطيتيه ورقة وصفت فيها مشاعرك العاطفية وعن أحاسيسك تجاه ...!!
أعوذ بالله أهلي كان قطعوني لو قمت بهذه العمل ...
طيب جدتي أعطيتيه رقم تلفونك
كيف ..... !!! " قالتها بدهشة ثم أردفت لها بحزم " : ما كان في زمننا هاتف ....أو حتى مراسيل
جدتي سؤال أخير قالتها بعد أن رأت جدتها منهمكة في نخل الطحين " الدقيق " : هل ذهبتي معه إلى الحدائق العامة أو تصادفتما بالسوق أو في بيتكم ...
لا لا لا ممنوع ..... على البنات فعل ذلك ......... لم نكن نخرج ولا نتقابل لا مع أبن العم ولا غيره
جدتي ماذا فعلتي هل ظل الحب في نفسك مكبوتاً في ذاتك مقيد بالتقاليد البيئة .... فكيف تزوجتي بجدي هل رأكِ قبل الزواج أم بعد ...!!
كان في زمننا أمه أو أخته من تأتي لرؤية العروسة أولاً ثم الرجال يأتون لخطبتها من أهلها ...
ولكن بحكم أننا قربى فلم يكن الحاجة لرؤيتهم لي بل تم الخطبة في أسبوع وبعدها تم الأعداد لمراسيم الزواج بأقل من شهر ....
بدون أن يراك يا جدتي
يكفي أن أباه هو عمي وأمه هي خالتي وعمتي ....
جدتي هل كنت تسترقين النظر إليه من خلف الباب بدون أن يراك ....
يا حُبيبتي ...ممنوع هذا طبعاً ...... في زمننا كان هناك اعتقاد سائد بين نساء القرية ورجالها ..... هو أن تظل البنت بدون رؤية العريس وهو كذلك حتى لا يضرهما شيء ..... ولا يحدث رفض من قبلهما ...
شهقت حينها منيرة وهي تجيبها بتعجب .... :
جدتي هل كان جدي وسيماُ ..........
علت ضحكت مجلجلة حتى برزت أخر أسنانها العريضة وهي تقول :
ألا ترينه وسيماً حتى في كبره ...
ابتسمت منيرة برقة متأملة لمحة جميلة لمعت في أطراف عيني جدتها ...شعرت حينها أن الحب لم يكن مثلما هو الآن .......... الحب الذي كان في زمنه أقوى ... وعشاقه أكثر وفاءاً وإخلاصا ... ذلك الحب الحقيقي بتضحياته الكبيرة ........ والذي كانت تتسأل عنه ......... لأول مرة تشعر منيرة أن الحب يكمن في المعاملة وليس بالكلام فقط ....... الحب الذي يحفظ روح حبيبه إلى أخر رمق ......... هذا هو الحب ........ الحب الذي وجدته منيرة ولمحت ذلك في كلمات الحب الذي كان يرددها جدها مع أغنية أم كلثوم ....... ويترنم عشقا مع نسمات عطر جدتها الحنونة ..... وجدت الحب الذي طالما رأته في عيني أمها ومع ضحكات جدتها العامرة بالدفء والحنان والحب الخالد إلى الأبد.........
" .......... تمت ....."

2 التعليقات:

نويرحمد يقول...

القصة جدا رائعة
لك خالص الود


نوير حمد

الشرقية

غير معرف يقول...

Wonderful story

Wait for new works

Sarah